قصة قصيرة : مَـنَـاحَـــــــة* / بقلم : د . مصطفى يَعْلَى
دفعت باب دارنا القديمة. مفتوح كالعهد به. في داخلي عواء وعويل مكتومان. ها هو السندباد يعود مكسر المجاديف من غيبة قسرية طالت بين البحار الخطرة، والجزائر المهجورة، والفيافي والقفار، بحثا عن كنوز سليمان وتركة قارون. آه يا جدران دارنا العالية، يا أرضها الباردة، يا بئرها المملوءة بالعفاريت والمردة المحبوسة في قماقمها. أين أهل الدار المسكونة؟ أين أمي؟ أين أختي؟. أين أخي الأصغر؟. لا شك أنكم لم تقتلوني في ذاكرتكم . إنني أعرفكم، مسامحون وطيبون إلى حد السذاجة. إليّ بالأحضان..
وخطوت إلى الداخل. ما هذا الصمت المطبق؟ ما هذه الرطوبة المقيتة ولماذا هذا الظلام اللعين؟. امتدت يدي إلى مفتاح النور بتلقائية. أمي تكفكف دموعها. مبسملة محوقلة. أختي تمشط شعرها المفرط الطول. وأخي منتصب بينهما كمسلة فرعونية صماء. أمي، يا مظلة دفء وشجن. ها هي هديتك، مغزل جديد يشتغل بالكهرباء وليس بالأعصاب، يقوم بعمل سنة بأكملها في يوم واحد !.
وأنت، أختي. يا زهرة العائلة المتبرعمة، هاك زجاجة عطر يأسر الألباب من بعد بعيد. أما أنت، يا نار الدار، يا أخي الأصغر، انظر بما جئتك. إنه قلم سحري يكتب بكل ألوان قزح ولا يجف مداده أبدا.
بلغني في غربتي عن أخي الأصغر العجب العجاب. أصبح يصوم أكثر أيام السنة، يهذي أكثر من العادي، يتشنج لأقل سبب، يتدله بسماع أخبار مشارق الأرض ومغاربها، يقول ( لا ) في إبانها، و ( نعم ) لمن يستحقها. فهمست لنفسي: لقد كبر أخي، ولم يعد أخي الصغير أصغر. جعلت أتفحصه، أتأمله بمزيد من الشوق. أخي الصغير الكبير، عانقني. مهما كان ويكون فأنت أخي. لا يتحرك، راسخ هو في الانتكاس على داخله، وغامض كأبي الهول، لا يبين عن حقيقة مشاعره أو نواياه. انظرني، ها أنا ذا قد عدت، ألا يفرحك هذا؟ ألا ترى أنني قد تغيرت كثيرا؟ مررت بكفي أما عينيه. لم يطرف ! ردّ علي بحق صلب أبينا وترائبه. لا يتكلم ! . اقتربت منه أكثر. ألا تقول لأخيك الأكبر: حمدا لله على سلامتك؟. بدا واضحا أنه لم تضرعي ! رأسه دائما ثابتة، وعيناه إلى فوق، كما لو كان مشغولا بمشكل محايد لا يهم الحاضرين. تذكر يا بن أبي وأمي طفولتنا المرحة على قساوتها. اذكر أيام كنت أعلمك القراءة والكتابة. فكر في نتيجة تشرذمنا.. لا تجاوب، لا حركة، لا كلمة، لا التفاتة. منتهى السكونية..العواء المكتوم داخلي يكاد يطفر إلى أعيني.
خطوت نحو أمي أسألها عما ألم به. لم تزد على أن ذكرت بحسرة موجعة أنه وهو صبي غر الحواصل، خرج من الدار ليصطاد الفراش، ثم عاد إليها وقد فارقه صباه، شاب الوليد !. لا شك أن عفريتا مؤذيا صعقه. معجزة حيرتنا يا بني، دون أن ينفع معها طب الأولين والأخيرين.. وأنت يا أختي، يا قصيدا سيمفونيا آسيا، أتدرين كيف حدث ما حدث؟. مصمصت أسنانها من غير أن تتخلى عن تمشيط شعرها الطويل: منذ سنين عديدة. توقفت عن الكلام لتفك بعض الشعر عن أسنان مشطها. في تلك السنة الضوئية المنفلتة كان أخونا الأصغر كبيرا يسير بجانب أمينة بنت الجيران. أما تزال تذكر أختها، تلك التفاحة الموردة، التي خطفها منك الفارس المجهول؟. آ ه، كان أخونا، يحتضن قيثارة ويوقع عليها بقلم من يراع أخضر. وكانت أمينة تتأبط كتبا ودفاتر. قال لها سنستقل مركبة كونية تطوف بنا أعالي الفضاء، ونرسم بدخانها النوراني على تجاويف القبة السماوية برج الحمل وبرج العذراء وبرج السنبلة وأيضا برج الميزان.. هي أراقت حلمها مقهقهة: ونسكن بابل ذات العماد. وفي عين اللحظة شبت عاصفة هوجاء انكشفت عن فارس من عصور غابرة يمتطي حصانا حديديا مسحورا. قال للولد: أنت دودة نتنة يجب أن تمحق، وقال للبنت: أنت تفاحة موردة ناضجة ينبغي أن تقضم قضما. ثم خطف أمينة وطار بها إلى عالم مجهول، الوصول إلى جبل قاف أهون من الوصول إليه. فتساقطت كتبها ودفاترها أوراقا أوراق. ومن يومها، وقيثارة أخي حبيبي لا تكف عن الصخب والعويل، إلى أن تقطعت أوتارها. فأوغل في الحالة الغريبة التي تراها.
سمعت الباب يدفع، ورأيت امرأة عجفاء تتسلل في تثاقل. جئت في وقتك يا أم أمينة. لم تتعرف علي وأنكرت أن أكون أخا لأخي الأصغر الأكبر ! ومع ذلك داهمتني بخبره الذي يبدو أنها أصبحا تحفظه عن ظهر قلب، لكثرة ما روته منذ سنين طويلة عريضة.. اسمع أيها الغريب، ذات يوم من أيام الصقيع، كان المسكين مرابطا بعتبة بابنا يعزف على قيثارته لحنا غريبا، ويبغم بغناء غير مفهوم، كما تعود منذ اختفاء الغالية أمينة. فجاءت بعض الأحذية الثقيلة ورفست قيثارته وكسرت يراعه، ثم جرجرته وهو يقاوم ويقاوم..
وهنا تخلت أختي عن تمشيط شعرها. حملت منديلا مبللا مثل أمها وجارتها. وفي لحظة واحدة انخرط النساء الثلاث في عويل مريع، وهن يتحركن أماما وخلفا ويمينا ويسارا.
ـ وا ولداه، ماذا رأى في دنياه.. ولدت شيخا وستموت شيخا يا كبدي. ـ كان يعدني بأن تكون هديته أثمن هدية في عرسي. ـ كان أكبر حلم لابنتي. فضاع الحلم والحالم.
شرنقني التأثر. تحركت لمغادرة الدار. في الخطوة الأولى سمعت هديرا ودويا. في الخطو الثانية هتف هاتف: ((لم يعد بيننا وبين الجنة سوى ثلاثين كيلومترا)). في الخطوة الثالثة تراءت أمامي أرتال مهشمة من لعب الأطفال. في الخطوة الرابعة جحيم معجون بالدماء والبترول يغلي فوق مائة درجة فهرنهايتية. في الخطوة الخامسة غاب عني الوجود، فكدت أن أسقط لولا أن استندت إلى الجدار البارد. في الخطوة السادسة سمعت صوتا غاضبا أعرفه جيدا، إنه صوت أخي الأصغر الأكبر، بلغني متحشرجا: ((اللعنة عليكم جميعا)). ولما التفت، كانت الصورة كما هي، الأم والأخت والجارة مسترسلات في التعداد والنواح، إلا أن الأصغر الأكبر كان قد عدل من وضع رأسه وحولها يتتبع خطواتي، ثم شرع يتزحزح من مكانه، وهو يطرف هذه المرة ويحرك شفتيه ! وفي الخطوة السابعة كنت قد بلغت باب الدار، وبدل أن أخطو إلى الخارج استشعرت تخاذلا يدب في أرجلي، وإذا بي أتهاوى لتشملني غيبوبة غير مباغتة.
ربيع 1984
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *من مجموعة (لحظة الصفر)، البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع، القنيطرة، 1996، صص. 41 ـ 45.