عندما غادرنا دار العرس قصدت أقرب عين لأشرب من مائها. يا لحلاوة هذا الماء ولذته، كأني به يروي النفس لا الجسد! لذلك أحببت أن أسقي نفسي قبل أن نركب السيارة ونتجه نحو ضريح مولاي عبد السلام رضي الله عنه وجهتنا الأخيرة في هذه الرحلة.
أوقفنا السيارة أمام بعض الدكاكين والمطاعم، وارتقينا مشيا نحو الضريح وأنا أردد في نفسي “لا إله إلا الله، لا إله إلا الله”.
بعد خطوات قليلة وجدنا رجلا وامرأة مسنين جالسين بجوار الدرج. تناهت إلى سمعي، حين دنونا منهما، عبارات تسول. واصلنا الصعود في اتجاه الضريح. أقول لنفسي: “ما أجمل خُلوَّ المكان من الناس، فالصمت أنسبُ شيء للعبادات والقربات ولمناجاة الله، لأنه أدعى إلى الخشوع، واستحضار معاني ما يقوله العابد وما يفعله وتأمله”.
واجهتنا لافتة كُتب عليها الممنوع في هذا المقام:
“ممنوع نقش الحناء.
ممنوع التصوير.
ممنوع الدخول بالأحذية”.
“جميل ومناسب”! قلت لنفسي، وخلعت نعلي الصيفي، وأمسكته بيُسراي، وتقدمنا نحو ساحة الضريح.
جَذبَ بصري مشهد امرأة تتوسط حشدا من النساء والفتيات. تبدو المسكينةُ في حيرة من أمرها، وهي تلتفت يمينا وشمالا وإلى الخلف لتَرُدّ على جماعة المتسولات وتتفاعل معهن. كل منهن تطلب مالا لنفسها، والمرأة بينهن حائرة دائخة!!
ابتعد مصطفى، وسار في اتجاه المسجد، ومشيت حافيا على أرضية من فِلّين أبتغي الاقتراب من الضريح، وقراءةَ ما تيسر من القرآن عنده، والدعاءَ لصاحبه ولنفسي وللمسلمين.
رأيتُ رجلا يتقدم نحوي مُخلّفا من ورائه حلقة من حفظة القرآن تتلو ما تيسر من الذكر الحكيم وهي تتوسط ساحة الضريح. ابتسم وقال لي:
– “مرحبا بك ألشريف. أجي نعملو لك فاتحة”.
لم أر مثل هذا في الحصن. كان الناس هناك يذكرون الله، ومن شاء منهم أن يُدعى له، تقدم نحو الحلقة، وطلب الدعاء.
ابتسمتُ للرجل، وأشرت إليه بباطن كفي، ثم وضعتها على صدري، ولم أنبس بشيء..وواصلت المشي نحو بُغيتي.
وقفت بجوار الضريح، واستعددتُ لقراءة آياتٍ من كتاب الله، فإذا بشخص عن يميني يجلس ورفيقين له يناديني قائلا:
– ألشّْريف، ألشريف..”!
تعمدتُ ألا ألتفت إليه. لا بد أنه يريد مالا كالمتحلقين هناك. عن يساري أيضا يجلس رجل يريد مالا. كيف للمرء أن يجد صمتا ليقرأ قرآنا ويدعوَ دعاء!؟
ما إن شرعت في الدعاء لمولاي عبد السلام رضي الله عنه حتى جاءت امرأة من اللواتي كُنَّ يُحِطنَ بالسيدة لحظة اقترابنا من المكان، وانطلقتْ تخاطبني طالبة مالا. لا يهمها وقوفك بجوار الضريح، ولا عيب عندها في أن تقاطعك إن كنت تناجي ربك سبحانه وتعالى. كلُّ همها أن تأخذ منك ما تريد. لذلك لم ينفع معها تجاهلي إياها مرةً، وطلبي منها أن تنتظر قليلا مرة ثانية، واضطرتني اضطرارا لمغادرة المكان، فمشيت مبتعدا عن الضريح وهي تلاحقني بجسدها وطلبها للمال.
وصلتُ منتهى أرضية الفِلّين وقد وليت الضريح والمسجد ورائي ظهريا، ووجدت مصطفى يقترب مني، وينبّهني على نهاية الفلين:
– انتعل صندلك!
انصرفت المرأة وقد يئست مني. والحق أني كنت أود منحها بعض المال لو أنها صبرت إلى أن أفرغ من الدعاء، لكنها أصرت إصرارا، فأحسستُ أني غدوت مرمى لسهام الابتزاز، وأنا بطعبي أرفض أن أُبتَزّ ولا أحب الرضوخ للمبتزين.
مشيت ومصطفى صاعدين نحو أحد المرتفعات لنشرف على الجبال والغابات التي تبدو للناظر من الأعلى، ورأينا مدشر “الحصن” من عل، ووجدت متعة وأنا أقول لمصطفى: “ذاك ملعب الكرة” و”ذاك مسجد من مساجد الحصن”..ثم هبطنا نحو ساحة الضريح لنصل إلى السيارة ونعود إلى أصيلا.
كان الوقت عصرا، وكان باب المسجد مفتوحا، لكن الناس كانوا يصلون في ساحة الضريح، وسألتُ عن ذلك، فعلمتُ أن أحد الشرفاء دُفِنَ حديثا داخل المسجد، فكان ذلك سببا في مقاطعة المصلين له.
قبل مغادرة المكان نظرت، مرة ثانية، إلى لافتة الممنوعات عند مدخله، وقلت في أعماقي: قبل منع التصوير، ونقش الحناء، والدخول بالحذاء، ينبغي أن يُكتب أولا: التسول ممنوع، خصوصا في ساحة الضريح وبجواره؛ وذلك ليتحقق للزائرين الصمت والهدوء المناسبان لمناجاة الله تعالى ودعائه.
اشتريتُ سُبْحات، ومنديلا، وبعض الحلوى التي اشتهرت بها المنطقة، وركبنا السيارة عائدين إلى أصيلا. توقفنا – في طريق العودة – عند عين بمنطقة “البغاغزة”، وملأنا قوارير من مائها، ثم توقفنا وقفة ثانية بأحد مقاهي أحد الغربية لنشرب قهوة قبل أن نستأنف المسير إلى أصيلا التي حملناها في قلوبنا ذهابا وإيابا.
قلت لمصطفى ونحن على مرمى وردة من مسقط الرأس:
كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى
وحنينُه أبداً لأول منزل
ونظرت إليه وهو يقود السيارة في ظلام الليل، فبدت لي إشراقة وجه مبتسم صامت أيقنت أنها ابتسامة اتفاق مع الشاعر وفرحة بالعودة إلى المدينة الشاعرة الساحرة!!
ولله الحمد في البدء والمنتهى.