خبزٌ، ورغيفٌ، وزيتٌ، وزيتونٌ، وجبن، وعسلٌ، وبيض، وشاي، وقهوة، وماءُ عينٍ باردٌ زُلال…مائدة متنوعة شهية وضعها أمامنا الفقيه السيد عبد الكريم دون أن يشاركنا الفطور، فقد مضى إلى المسجد باكرا لِما ليوم الجمعة من فرادة وتميز ولما يتطلبه من استعداد خاص.
كنت استيقظت باكرا كعادتي حين أنام خارج منزلي، ونظرت إلى مصطفى فإذا هو نائم. حاولت أن أستأنف النوم، لكن تعذر عليّ ذلك، فالطبع يغلب التطبع والتصنع. مددت يدي إلى هاتفي وأخذت أتصفح “الفيسبوك” ريثما يفيق صديقي..لذلك تأخر فطورنا ومغادرتنا للبيت.
قال مصطفى: “سنذهب لزيارة خالتي”، ومررنا بين الحقول بمحاذاة عيون الماء، لتُسْلمنا الممرات الخضراء إلى منزل نظيف، حديثِ عهدٍ بالصباغة، تحفُّه المغروسات من كل ناحية.
بعد طرقاتٍ على الباب أطلت امرأة بيضاء، جميلة، مبتسمة، لم يبق غيرُ عام واحد لتصل الثمانين كما ستخبرنا بَعدُ، فكان سلامٌ، وكلامٌ، ودعوة لدخول منزلها الذي يشبه باطنُه ظاهرَه نظافةً، وأناقةً، وحُسْنَ تنظيم.
بسخرية من الواقع روَتْ لنا للا سْلامة بن عمرو فصلا من فصول المعاناة بسبب الحريق الذي أشرف على “الحصن”، وكاد يلتهمه لولا أن الله تعالى حصَّنه، وعَصَمه، وأوقف النار عند أعتابه. ثم قالت في تأثر واضح لا سخرية فيه إنها عندما خرجت لتفرّ من النار التي قد تزحف على المدشر، نظرت إلى دارها وودّعَتْها قائلة:
– “بْسْلامة ألحبيبة! شْحااالْ تْعَذّبتْ عليك وتْكَرْفَسْتْ عليك”!
عبارة تلخص عُمراً ومشاعرَ في كلمات، كما تكشف سِرَّ ارتباط الناس بدورهم، ورَفْض بعضهم مغادرتها رغم المخاطر المحدقة.
لكن ما أسرعَ ما عادت للا سْلامة إلى سخريتها حينما سألها مصطفى قائلا:
– خالتي! وَقيلا كنتِ كتصبغ الدار؟
ابتسمت وقالت:
– “قبل الحريق كنت كَنْجِيّْرْ. سِيوانَة كتموتْ وعَيْنها في الفْلُّوس”!
وضحكنا لعبارتها الساخرة.
بعد حديثٍ ممتع مع للا سلامة أطلعني مصطفى على مرافق دارها الجميلة، ووصَفَ، في شوق وحنين، ما طرأ على أجزاء من الدار من تحولات مع مرور الأعوام. استأذنتُ للا سْلامة في التقاط صورة وإياها فقَبِلَتْ، ثم أطلعني مصطفى على رَحى في زاوية من زوايا الدار، والتقط لي صورا بجانبها.
أخذتُ “شاشية” من فوق الرحى، ووضعتها فوق رأسي قبل التصوير، فنظر مصطفى إلى خالته الواقفة بجانبنا، ثم نظر إليّ وقال لي:
– أنت محظوظ لأنها لم تمنعك من لبس شاشيتها.
سارعت إلى إزالة الشاشية عن رأسي، وقلت معتذرا:
– عذرا خالتي، هل تأذنين لي بوضعها فوق رأسي؟
فابتسمت وحركت رأسها إيجابا. ثم ودّعناها وهي تجدد دعوتنا للعودة، بعد صلاة الجمعة، كي نتناول غداءنا عندها.
قلت لمصطفى ونحن في الطريق إلى “مسجد اشقاقرة”:
– أرجو أني لم أغضب للا سلامة بارتداء شاشيتها أول مرة دون استئذان.
فقال لي:
– أنا أستغربُ أنها سمحتْ لك بذلك مع أنها لا تسمح لأحد باستعمالها.
كان الفقيه الخطيب السيد الأمين شقور على وشك ختم خطبته الأولى عند وصولنا للمسجد. خطبة موجزة موضوعها العمل الصالح وضرورة اغتنام الحياة للإكثار من أعمال البر. راقتني فصاحة الخطيب، وسلامة خطبته من الأخطاء اللغوية، كما راقني حسن اختياره للاستشهادات القرآنية والحديثية وللقِصص المناسبة للموضوع.
في لطفٍ وأدب كان يُنبّه على مواضع الاعتبار في كلامه بعبارات كقوله: “اسمع”، و”انتبه لهذا الأمر”، “هذه قضية نبهنا عليها الأسبوع الماضي”..ولم ينس أن يدعو الناس لشكر الله على أن أنجى مدشرهم من النار، والاعتبار بما حدث لتقويم السلوك ومضاعفة الجهود في السير إلى الله عز وجل.
لاحظت، في ختام الخطبة، أن الرجل لا يدعو – في دعائه – للخلفاء الأربعة فحسب، ولكنه يدعو للعشرة المبشرين بالجنة، وهذا ما لاحظته كذلك في ليلة الذكر بمسجد المحروقة، وهي طريقةٌ في التعليم والتثقيف ذكيةٌ جعلتني أستحضر برنامجا في إحدى القنوات الإعلامية الفضائية كان الإعلامي فيه يسأل الناس، في الشارع، عن أسماء العشرة المبشرين بالجنة، فلا يجد عندهم جوابا!
سألت صديقي عن هذا الخطيب الفصيح المفيد، فأخبرني أنه من أبناء “الحصن”، وأنه يقطن بتطوان، ويأتي كل جمعة إلى مسقط رأسه لخطبة الجمعة. صلةُ نسَبٍ طيني، وصلةٌ روحية، وتربوية، وتعليمية، يَوَدُّ المرءُ لو اتصف بها أبناء كل مدينة، وقرية، ومدشر، ممن يقدر على ذلك، كيما يستفيد كلُّ مكان من علم أبنائه وما آتاهم الله من فضل.
قُربَ باب المسجد وقفنا قليلا..يسلم مصطفى على بعض من يعرفهم ويعرفونه من أهل “الحصن”..ثم يمر بجوارنا عازفو “الغيطة” و”الطبل”، ومعهم شابٌّ من أهل العريس فيما قدّرت، إنه يوم زفاف في المدشر، جمعة مباركة طيبة تُزفّ فيها عروس إلى عريسها. استحضرت أعراس المدن وإقامة أغلبها أيام السبت ليَسهرَ الناسُ ويصبحوا نائمين عاطلين. أي إضاعة لفضل الجمعة وبَرَكتها!!
قلت لنفسي ونحن نتجه إلى دار العريس بعدما دُعينا لتناول الغداء معهم: ما أجمل الزفاف في يوم مبارك كريم!