رقصة باجلود من التراث الموسيقي الذي توارثته الأجيال منذ مئات أو آلاف السنين، وهي رقصة موغلة في القدم، متعددة الدلالات، تؤدى في المهرجانات والمواسم والأعراس، في المجال القروي، وخاصة في شمال المغرب، وهي عصية على الفهم السليم، شكلا ومضمونا، ولا نستطيع الجزم من حيث انتماؤها الزمني والجغرافي، وبعدها الدلالي.
الرقصة يؤديها رجل قوي البنية، خفيف الحركة، يرتدي جلد معز في الغالب، يحمل قضيبا، يهش به على جمهور المتفرجين، يضرب هذا ويهدد ذاك، على إيقاع آلتي الغيطة والطبل من طرف جوقة من الموسيقيين الرجال، وسط حلقة من الرجال وشباب القرية أو العشيرة، يسدون كل المسالك على باجلود، لكي لا يصل إلى الأطفال والنساء فيرهبهم، يرقص باجلود الرجل الشرير الذي يرعب الجميع بزفيره وقضيبه، وضربه الشباب الذين يطاردونه في عملية فر وكر، ويتنامى الصراخ ويشتد الإيقاع، أما النساء فيساهمن في إذكاء الصراع بين باجلود وشباب القرية بالصياح والزغاريد.
وعادة ما تنطلق رقصة باجلود بعد غروب الشمس، وتستمر إلى الهجيع الأخير من الليل، حيث يبدو العياء على الجميع، ويأبى أن يستسلم أحد الطرفين، وينسحب من ميدان الصراع، لا شباب القرية، ولا باجلود الشرير، وقبل شروق الشمس تتوقف الجوقة عن النفير والضرب على طبول الحرب، فيفترق الجمعان ليلتقيا في مناسبات لاحقة، ويستأنفا من جديد المناوشات والصراع والمطاردة ، وتستمر الحياة.
على مستوى المضمون أعتقد أن الرقصة تجسد الصراع الأبدي بين الخير والشر، وأرجح أنها امتداد للمعتقد الديني في عهد اليونان والإغريق والرومان، الذين تواجدوا في السواحل المغربية، وفي بعض المواقع التجارية الداخلية، (طنجيس – لكسوس – إفيدوم نفوم – تمودة – البصرة – وليلي…)، واستمرار الموروث الشعبي على امتداد آلاف السنين في شمال المغرب، فقد كان يعتقد اليونانيون والرومان والقرطاجيون وأغلب الأمم البائدة في الزمن السحيق بتعدد الآلهة، وأن لكل مجال إلها، فللشر إله، وللخير إله كذلك، فتعددت الآلهة، فكان إله الحرب، وإله السلم، وإله القبح، وإله الجمال، وإله الأرض، وإله السماء، وإله الخصب، وإله الجفاف، وإله الحب، وإله الكراهية، وهلم جرا، واعتقد غير جازم أن باجلود يجسد الشر، لذلك هو يحمل في يده العصا، يهدد بها الجمهور، ويضرب ضعافهم، ويعتدي على بسطائهم، فهو يمثل الأشرار الذين يفسدون المجتمع، ويظلمون الناس، أما الجمهور المتفرج فيجسد الخير والأخيار، وضحايا الاستغلال الاقتصادي، والظلم الاجتماعي.
رقصة باجلود صرخة عالية في وجه الظلم الاجتماعي، وهي كذلك تفجير لمكبوت الفلاحين الفقراء ضد استغلالهم من طرف الإقطاعيين الأقوياء، وهي كذلك تجسيد للعلاقة المضطربة بين العمال الكادحين والسادة المستبدين، وبعد تحليل هذه الرقصة، نخرج بخلاصة أنها تجسد ثنائية الخير والشر، وعدم التكافؤ في معادلة الحقوق والواجبات، فالفلاحون العاملون في الحقول المهضومة حقوقهم، الجائعة بطونهم، القليلة أجورهم، لا حول لهم ولا قوة إلا الصبر والمعاناة، حظهم شظف العيش، والحرمان والشقاء، أما الأسياد فنصيبهم الغنى والنعيم والثراء، وبدل أن يثور الفلاحون البسطاء في وجه كبار الفلاحين الطغاة المستبدين، الذين يحكمون سيطرتهم على مصادر العيش، ويعيشون الترف على حساب تعب وضنك بسطاء القوم، والفلاحين الفقراء، وخوفا من جبروتهم يكتفي الفلاحون بالتعبير عن مواقفهم الرافضة لهذا الاستغلال البشع لطاقاتهم عبر التعبير الرمزي، وينفسون عن كربهم ومعاناتهم عن طريق رقصة باجلود، التي يطاردون فيها كل إقطاعي، أو مستبد، أو ظالم، أو ضرر مفترض، ويطاردون باجلود ويحاصرونه في حلقة مغلقة، عساهم يحاكموه ويقتصوا منه بعض الشيء، غير أنه بدوره يتمادى في غيه وجبروته، واضطهادهم، وتستمر جدلية الصراع بين العمال وأرباب العمل إلى ما لا نهاية.
وخوفا من سياط باجلود لا أستطيع الجزم في تحديد هوية هذه الرقصة، وانتمائها الزمني والجغرافي، لكنني أجرؤ على القول: إنها رقصة تجسد الصراع بين الخير والشر، وبين التضحية والاستغلال، وأنها أصبحت من التراث الموسيقي المغربي، وأنها تتأرجح في انتمائها بين الأسطورة والواقع.