الكتابة استكمال لنقص العالم
سعداء باستضافتك أستاذ مصطفى في هذا اللقاء الحواري، وأول سؤال نستهل به جلستنا هو : من هو مصطفى الغرافي؟
بداية أشكر الأستاذة أسماء التمالح على مجهوداتها القيمة في خدمة الثقافة، من خلال التعريف بأعمال المبدعين الجادين الذين يغنون المشهد الثقافي المغربي والعربي.
مصطفى الغرافي، شاعر وباحث من المغرب، من مواليد القصر الكبير- المغرب – سنة 1978 م، أستاذ اللغة العربية بالتعليم الثانوي. حاصل على:
– دبلوم مدرسة المعلمين 2000.
– الاجازة في الادب الحديث 2003.
– دبلوم الدراسات العليا المعمقة في المناهج النقدية الحديثة 2005
– دبلوم المدرسة العليا للأساتذة .2007
– دكتوراه قيد المناقشة في البلاغة وتحليل الخطاب .
– نشر ديوانا شعريا يحمل عنوان “تغريبة” سنة 2001.
– ساهم بأوراق بحثية في عدة ندوات نقدية بعضها منشور في صحف ومجلات متخصصة:
-الأبعاد التداولية لبلاغة حازم من خلال منهاج البلغاء وسراج الأدباء- مشروع قراءة، مجلة عالم الفكر الكويتية.
-البلاغة والايديولوجيا – نظر بحثي في العلاقة الملتبسة بين المعرفة البلاغية والمطالب الايديولوجية، في مجلة الرافد الاماراتية ومجلة الفكر العربي المعاصر التي يشرف عليها المفكر مطاع صفدي.
-المثقف والسلطة من خلال الآداب السلطانية بمجلة وجهة نظر المغربية.
– محمود درويش..مغني الشهداء، مجلة طنجة الادبية.
ـ الأدب والغرابة لعبد الفتاح كيليطو- النص الادبي وقواعد النوع، جريدة القدس العربي .
-البلاغة والسرد لمحمد مشبال- جدل الوظائف وبروز معيار التلقي التداولي، جريدة العرب اللندنية .
-الكلام والخبر لسعيد يقطين مشكلة التصنيف في الادب العربي، جريدة القدس العربي .
– البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، جريدة القدس العربي .
سيظهر له في مجلة “عالم الفكر” الكويتية بحثان موسعان:
– في مقولة النوع الادبي- دراسة في إجراءات المفهوم وتطبيقاته في الغرب وعند العرب
. – عن البلاغة، دراسة في تحولات المفهوم .
وفي مجلة “مبدأ” التونسية:
– عزف منفرد- دراسة في جماليات خطاب الموت في جدارية محمود درويش .
– أصبحت من فترة بسيطة أبا لياسر، كيف تستشعر روح الأبوة في ذاتك؟
الأبوة والبنوة التحام بالمستقبل، وتفكير في مستقبلنا ومستقبل أجيالنا. وقد عبرت عن الشعور الغامر والهادر الذي أحدثه في كياني مجئ ياسر، في الرسالة التي وجهتها له بمناسبة عيد الحب ونشرتها القدس العربي، ومنها أقتبس ” بعيدا عن كل جدل حول مشروعية الاحتفال بعيد الحب، أقول لصغيري ‘ياسر’، الذي لم يفقه كلمة واحدة من صراخ ‘الكبار’ وضجيجهم:
‘أحبك’ أيها الطفل السماوي، يا تغريبتي الكبرى وزغرودة الأمهات في أقاصي الليل، يا أغنية الأغنيات. أحبك يا شمسي ونهاري. أحبك يا رصاصة من فرح طفولي، أطلقتها علي أمك ذات لحظة استثنائية من عمر النوارس الفضية، فاخترقت كل وجودي.
أحبك يا ملح الأرض، وأغنية السماء. أحبك يا بعضا مني يختزل كلي. أحبك يا نرجسة العمر البهي، وحلم النداءات المتصاعدة من أقصى منطقة من وجيب القلب العليل. يا سحابة من فرح وقبضة من قوس قزح.
لقد خفف مجيئك من غربتي في هذا العالم. وصيتي لك يا صغيري، وانت في الشهر السادس من عمرك الممتد في ذاكرة أبيك المنذور للوجع الخرافي: دع جدالات الأرض لأهل الأرض، وحلق رفقة زملائك الصغار ملء رحابة السماء“.
– مصطفى الغرافي الزوج، بم يوصي الأزواج الشباب؟
نصيحتي لهم – إن كان لي أن أنصح – أن يملأوا قلوبهم بمزيد من الحب. لقد تحولت قلوب الكثيرين إلى مضخة دم فقط. لا تنبض إلا لتضخ الدم في العروق. لقد نسينا الوظيفة الحقيقية لهذا العضو الصغير الذي يمنحنا الحياة، لنملأ الكون محبة وليس كراهية .
القلب الذي لا يحب، صحراء قاحلة أو أرض موات.
إن معظم مشكلات الشباب المتزوج حديثا، والذين تعج بهم محاكم قضاء الأسرة، لم يتم إعدادهم للمرحلة الجديدة التي هم مقدمون عليها *الأبوة والامومة ‘ .
معظم الشباب يتزوج وهو لا يعرف مسؤوليات ما بعد الزواج. ولذلك يتفاجأ كثيرون بأن ما بعد الزواج يختلف تماما عما قبله. وبقليل من المرونة والتفهم، يمكن تجاوز كثير من المشكلات التي تواجه الأزواج في بداية حياتهم الزوجية.
– شهر مارس هو شهر المرأة بامتياز، ومعروف عن الأستاذ الغرافي تعلقه بأمه حليمة. ماهي أجمل هدية قدمتها لأمك؟
بوركت أرض بها أمي. تقدس تراب تسير عليه أمي. تمجدت سماء تظل امرأة أدين لها بكل ما هو “أنا.“ هديتي لها قصيدة وإهداء أعيد هنا إثبات نص الإهداء، الذي كتبته لها في مستهل ديواني”تغريبة” :
“إلى حليمة- سيدة الذات الغرافية بامتياز
إليها لأني باختصار مدين لها بكل ما هو “أنا”. وقد كتبت لها في قصيدة “إلى أمي”:
من يشرعني
حقل لآلئ
في وجهك أمي
وقبلة عاشق
…
– أين نلمس حضور السيد الوالد في حياتك؟
لقد غادرنا الوالد في سن مبكرة من عمري (كنت في القسم الثالث ابتدائي)، ولازالت اللحظة التي جاءنا فيها خبر غيابه مطبوعة في ذاكرتي. لقد مات في حادثة شغل (بلدية القصر الكبير( ، وبسبب التحايل والتلاعب بالقانون ضاعت حقوقه وحقوقنا.
أتذكر أنني لم أبك عندما بلغني خبر وفاته، ولا زالت دموعي إلى اليوم عصية، حتى في أقسى حالات الوجع والفجائع التي تزلزل عزائم الرجال. وقد كتبت فيما بعد قصيدة عمودية في رثاء الوالد، وكنت في حدود 15 عشرة ترسمت فيها تقاليد قصائد الرثاء، من ذكر لمحاسن الميت والترحم عليه.
وعندما أعيد قراءتها الآن، أجد فيها مبالغات لا يقبلها الذوق الجمالي الحديث. طبعا قصائدي من الشعر العمودي لم أنشرها، لأنها تمثل البدايات لفتى يحاول تملك ناصية الكتابة فيبدأ بتقليد الكبار.
– يخلط الكثيرون بين الأستاذين الشقيقين محمد الغرافي ومصطفى الغرافي ، هل من نقط تمييز بينكما؟
محمد أخي وشبيهي، نكوّن معا شقي التفاحة الرائعة. نحن أكثر من شقيقين، توحدنا الاهتمامات الفكرية والانشغالات الإبداعية مما جعل ارتباطنا مصيريا.
لقد بدأ الكتابة مبكرا، وأعترف رغم أن شهادتي فيه مجروحة أنه يكتب بشكل جيد. أنا أقرأ نصوصه، ولاسيما السردية بمتعة بالغة.
أتمنى أن يفرج عن نصوصه التي عكف على صياغتها بصبر ومحبة، قبل أن تضطره الأحباطات المتوالية إلى الانصراف عن الكتابة والزهد في الابداع، وهي الحالة التي عنيتها عندما كتبت له في إهداء بحثي لنيل دبلوم الدراسات العليا “: إلى اللائذ بعزلة الصمت أرفع هذا الضجيج”.
لقد قصدت استفزازه، لكي يخرج عن صمته الذي طال ويعود إلى الكتابة التي يعشق. وقد ظهرت له مؤخرا دراسة جادة في مجلة الرافد الاماراتية، بعنوان: “بلاغة السرد في الميثولوجيا العربية القديمة”، أدعوه إلى المواظبة على الكتابة لأنه يمتلك فعلا موهبة حقيقية.
– الكتابة و القيم، الى أي حد يمكن للبعض نشر القيم المسيئة للأخلاق بنجاح عبر الكتابة؟
لقد كانت الكتابة تسعى على الدوام إلى إكمال نقص العالم، عن طريق تقديم نموذج مثالي بشكل جمالي، وهكذا تصبح الكتابة –بما هو رؤيا- تجاوزا للواقع وتخطيا له من أجل التأسيس لعالم مغير، وهو النموذج المثالي الذي تطمح الإنسانية إلى تحقيقه.
والكتابة بطرحها لهذا النموذج بديلا للواقع المعيش، تساهم في التحريض على تغييره، إذ تعلن عليه الرفض وتروم تهديمه ليس لمجرد الهدم، وإنما الهدم من أجل البناء. إذ الكتابة تأسيس باللغة والرؤيا: تأسيس عالم واتجاه لا عهد لنا بهما من قبل. ولهذا كانت الكتابة الحقة التي تستحق هذه التسمية تخطيا يدفع إلى التخطي. إنها طاقة لا تغير الحياة وحسب، وإنما تزيد إلى ذلك في نموها وغناها. وبهذا المعنى تصبح الكتابة ثورة على قوانين الوجود الخارجية، ومطالبة –في الوقت الذي تلغيها فيه- بإيجاد بدائل عنها حتى لا يسقط في الفوضى واللاشكل.
ولكي يصبح الشعر تجاوزا للواقع، ومحرضة على تغييره، ينبغي للكاتب أن يرتبط بروح أمته ليعبر عن طموحها وتطلعاتها ومثلها العليا. لأن روح الأمة ينبوع الأدب الحي، والكاتب الذي يستلهم روح أمته ورموزها يستطيع أن يخلق أبعادا إنسانية جديدة، ويستطيع بالتالي أن يلامس جوهر الوجود الإنساني، لأن نصوصه لا تخاطب فردا أو جماعة بعينها، وإنما تخاطب الإنسان حيثما كان. وبذلك يستطيع أن يرتفع من خلال التعبير عن مصير فرد إلى التعبير عن مصير الإنسانية وضميرها.
– ما تصورك عن المهرجانات والتكريمات والأمسيات التي تكاثرت في الآونة الأخيرة بدعوى الدفع بالحركة الثقافية نحو تبني موقع محدد في الصراع الايديولوجي القائم؟
لعل المشكلة الأساس التي سقطت فيها الجمعيات الأدبية أنها انشغلت بالأضواء والبهرجة، حيث ركزت على الأنشطة الإشعاعية التي تعتمد على استدعاء شخصيات أدبية مرموقة لها رصيد عند الجمهور. بحيث يكون الرهان على حضور جمهور كبير للحفل، وبعد أن ينتهي اللقاء ، ينصرف أعضاء الجمعية الى أعمالهم الشخصية في انتظار جني ثمرة جهودهم المضنية التي لم تنحصر في التنظيم، والبحث عمن يمول النشاط. في حين أن العمل الجمعوي يقتضي فيما أتصور رعاية المبدعين الشباب الذين يحتاجون إلى الدعم والمساندة، عبر إرشادهم إلى مواطن الخلل والقصور في نصوصهم، وتقديمهم إلى الجمهور في الأمسيات الثقافية والندوات الأدبية. بدل الاستعانة بهم في تأثيث القاعات، لضمان حضور كثيف يسهم في صنع نجاح المهرجانات والأمسيات.
أعتقد أن الجهود ينبغي أن تنصب على إعداد الجيل الصاعد من الكتاب الموهوبين، بدل الارتكاز على المبدعين الذين استطاعوا فرض انفسهم، وأصبحوا “ماركات مسجلة” يمارسون الوصاية على الشأن الثقافي. ولا هم لهم سوى التفكير في التعويض عن السفر، والبحث عمن يدفع تأشيرة الحضور لأمسيات خارج الوطن. حيث أصبحت نفس الوجوه تتكرر في كل الانشطة، وتتعاقب على منصات المهرجانات وكأن الله لم يخلق غيرها يصلح لأن يسد مكانها إذا غابت.
– هل النخبة المثقفة معنية بالشأن المحلي؟ وما تفسيرك لتحول المثقف من معارض الى مطبل للسطة؟
المثقف العربي المعاصر يعيش وضعا ملتبسا، يتميز بازدواجية واضحة، فهو من جهة ينتقد ممارسات السلطة التي يتهمها بالجمود ومعاداة الفكر المستنير، لكنه ما يلبث أن يرمي بنفيه في أحضانها خوفا من بطشها، وطمعا في خير يناله على يديها.
ومن هنا فقد المثقف شرعيته ومصداقيته عند الجماهير التي باتت تنظر إلى المثقفين باعتبارهم كائنات هلامية وطفيلية، تتميز بانتفاخ الأنا وتضخمها فتفضل العيش على الهامش، بدعوى التميز بدل أن تلتحم بالشعوب وتعمل إلى جانبها من أجل تحقيق النهضة المنشودة. ولذلك لاحظنا في الآونة الاخيرة، أن الشعوب تسبق مثقفيها بل إن المثقفين يلهثون وراء الشعوب التي وعت بأن مصيرها بيدها، وهي التي تقرر كيف تصنع واقعها وتؤثت نمط وجودها.
إن النماذج التي استطاعت أن تشق طريقها بعيدا عن خط السلطة قليلة جدا، ويلح على ذاكرتي حال القاضي والفقيه والفيلسوف القرطبي ابن رشد الحفيد، باعتباره نموذجا للمثقف المستقل الذي انتصر لقيم العقل والتنوير، ودافع عن الفلسفة من خلاله سجاله الشهير مع أبي حامد الغزالي، الذي هاجم الفلسفة في كتابه الشهير “تهافت الفلاسفة”، فرد ابن رشد بكتاب قوي هو “تهافت التهافت”، فبالرغم من المنزع العقلاني المستنير الذي ميز سلوك وكتابات ابن رشد، إلا انه لم يسلم من الانصياع لرغبات السلطة وخدمة مصالحها. وهو ما تجسد عنده بشكل واضح في نقده اللاذع والعنيف على الفكر الأشعري الذي يمثله الغزالي، فهذا النقد لم يكن يستند إلى بواعث فكرية ومعرفية محضة، ولكنه كان في الحقيقة، نقدا بطريقة غير مباشرة لمؤسس السلطة الموحدية في المغرب وهو ابن تومرت، الذي أشاع المذهب الأشعري في المغرب، وعملت الدولة التي انبنت على دعوته على تاريخه وترسيمه.
إن عمل ابن رشد من هذه الجهة سياسي اتخذ مظهرا فكريا. إنه يشبه موقف السلطة المرابطية التي عملت بإيعاز من فقهائها، على حرق كتب الغزالي وعلى رأسها كتاب الإحياء. مما يعني أن المشروع الفكري لابن رشد، لم ينج هو الآخر من المواجهات السياسية التي تخدم السلطة القائمة.
المثقف العربي لا يشعر بالانتماء إلى الوطن وهو ما يجعله يشعر بالاحباط. التنظير شئ والفعل شئ آخر .
متى نشارك التاريخ أعراسه بدل العيش على الهامش؟
التاريخ لا يرحم.
– من الظواهر الشائعة عزوف التلاميذ عن درس الأدب هل لديك اقتراحات من شأنها أن توجه الشباب نحو القراءة وتساعد المسؤولين في الحد من هذه الظاهرة؟
إن التأمل في وضع المدرسة المغربية اليوم، في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها هذا العصر، يواجه بسؤال لا مناص من الإجابة عنه حتى نكون رؤية واضحة لمعالم المستقبل: مستقبلنا ومستقبل أجيالنا. إنه السؤال الإشكال:
لماذا ندرس الأدب اليوم في المدرسة؟
وهو سؤال معضلة يواجه المهتمين بحقل التربية والتعليم بصفة عامة، والمشتغلين بالأدب بصفة خاصة. وإن كان يهم بصفة أخص اللغات الذين توكل إليهم مهمة تنفيذ البرامج الدراسية، ومنها تدريس النصوص الأدبية. حيث تواجههم عند تدريسهم لهذه المادة مشاكل جمة، تجعل الأسئلة تتناسل أمامهم فلا يستطيعون وقف سيلها الجارف:
ما جدوى تدريس النص الأدبي؟
هل ندرس استجابة لحاجة حقيقية تفرضها الأهداف والغايات الموجهة للسياسة التعليمية في هذه البلاد؟
أم أن تدريسه يرجع فقط إلى “حكم العادة”، بحيث جرت العادة أن تتضمن جميع الأنظمة التعليمية مادة الأدب كجزء من البرنامج الدراسي؟
ثم ما هو الوضع الإعتباري للأدب في الوقت الحاضر الذي يشهد سيطرة واضحة لوسائل الإعلام مقابل التراجع المهول في اقتناء الكتاب وقراءته؟
أيضا ما الوظيفة التي ينهض بها النص الأدبي؟ وما جدوى تدريس لغته الهائمة والمموهة لطلبتنا في ظل اجتياح “تقاليد كتابية” مختلفة تطلعنا في الإنترنيت والهواتف المحمولة؟
أليست هذه هي اللغة التي يستخدمها الشباب في نقل مشاعرهم وأحاسيسهم ويرون فيها أداة ناجعة وفعالة في التواصل؟
وإذن ما الحاجة إلى لغة الأدب الوقورة والمغرقة في القواعد والقيود؟
هل يستشعر شبابنا التائه بين القنوات التلفزية المتنوعة، والذي تربى على قيم الإستهلاك السريع، حاجة إلى بذل الجهد وتجشم العناء من أجل قراءة وفهم قصيدة جاهلية يقف صاحبها على طلل مهجور باكيا مستبكيا؟
وهل يراها تستحق القراءة أصلا؟
هل يملك شبابنا “الوقت” و”الكفاية التأويلية” حتى يتوقفوا عند قصيدة معاصرة يجهد فيها صاحبها نفسه في تتبع المجازات وآخر تقنيات الكتابة، فيحشد لها الرموز والأساطير والبناء الشذري المتشظي.. فيضني قارئه الذي ما يلبث أن ينصرف عنه؟
إن هذه الأسئلة تفرض نفسها بإلحاح علينا اليوم، ويرجع ذلك إلى عاملين اثنين:
– تدني مستويات القراءة داخل المدرسة و خارجها.
– سيادة تصور يرى أن ليس للأدب وظيفة في حياتنا المعاصرة، ومن ثم الدعوة إلى تشييع جثمان الأدب ما دامت وظيفته في أحسن الأحوال هي التسلية والمتعة وخلق عوالم خيالية تفصل القارئ عن واقعه.
ومن هنا كان التساؤل عن جدوى تدريس الأدب مطلبا بيداغوجيا ملحا، فهو المدخل الذي ينبغي اعتماده لإعادة طرح علاقتنا بالأدب بتحديد الغايات والرهانات التي يتقصدها من تدريس النص الأدبي.
وإذا كانت المناهج في التدريس قد أعلت من شأن المحتوى (المنفعة)، فإن بعض المناهج الحديثة نادت بإعلاء المتعة (الشكل) وبالغت في ذلك إلى حد إلغاء البعد المعرفي – المضموني للنص الأدبي. لكن الأكيد أن المدرسة لا يمكن أن تفصل بين الوظيفتين، لأن المدرسة تعد التلميذ للحياة بتزويده بالتجارب ومده بالخبرات والمهارات اللازمة من ناحية أولى، وتعده لتذوق الآثار الأدبية والشعور باللذة في قراءتها أثناء الدراسة وبعدها. وهو ما يظهر أن اختيار نصوص معينة وإدراجها ضمن مقرر، يتم تلقينه في مرحلة دراسية محددة ليس فعلا اعتباطيا ولا خاضعا لمحض المصادفة ولكنه فعل واع يتقصد بالضرورة ترسيخ القيم المعرفية، والجمالية والأخلاقية التي تجسد السياسة التعليمية للدولة، والتي تسخر في النهاية لتشكيل عقل ووعي المتلقي (التلميذ)، بما يتناسب مع المواصفات التي ينبغي أن يكون عليها عند التخرج. ولا يخفى أن هذه المواصفات لا تخرج عن الغاية العامة ممثلة في “تكوين مواطن صالح” من منظور واضعي السياسة التعليمية.
إن غاية تدريس الأدب تتمثل في تقريب القيم الجمالية والمعرفية التي تنطوي عليها النصوص بمختلف أشكالها وأجناسها، وتحفيز التلميذ على الكشف عنها وتعلم اللغة من خلالها. وقد ترتب عن اختلاف المنطلقات النظرية وتباين المرجعيات الفكرية اختلاف الغايات التي يتوخاها كل فريق من تدريس الأدب. وهو ما يتطلب من القائمين على وضع البرامج الدراسية مراعاة خصوصية المستهدف (التلميذ) ما دامت الغاية من درس الأدب نقل الثقافة إلى الجيل الصاعد بما هي قيم وذوق وإحساس بالجمال.
نحن بالفعل محتاجين إلى إعادة طرح السؤال عن علاقة الجامعة بالوظيفة؟ كما أننا مطالبون بفتح ملف تدبير الدولة لمسألة الشواهد الجامعية، فهي تغرق السوق بالشواهد لتعويم قيمة الشهادة كما تعوم العملة في الاسواق. شواهدنا أصبحت بلا قيمة، وحاملوها لا يعكسون المستوى العلمي المطلوب.
من المسؤول عن هذه الجريمة التي ترتكب في حق الوطن وأبنائه؟
متى يتحول الادب من بلسم يساعدنا على الشفاء من الجراحات التي يسببها لنا الاخرون إلى وسيلة تساعدنا على العيش بعمق؟
– نستشعر نبرة الحزن في بعض قصائدك، ما مصدر هذا الحزن؟
لقد كتبت في مفتتح ديواني “تغريبة” هذه الجملة الكثيفة في دلالتها الرمزية والإيحائية:
“…ورغم أنه لا شئ يستحق أن أحزن من أجله فإني حزين”.
عندما كنا صغارا كنا نحلم بسماء تتسع لرقصتنا الطفولية. كم حلمنا ببحر لا يكسر مجاذيفنا. وبصداقات حقيقية لا تخون. وبوطن لا يقسو على من يعشقه حتى آخر نفس.
لنجري عملية حسابية( وأنا أعرف خيبتي في الرياضيات ) ماذا بقي من تلك الايام.
الأحلام؟ الاوهام؟ غصص في القلب؟ فشل وراء فشل؟
أحيانا أتخيل أبناء جيلي مثل بطل أسطوري يجترح خيباته ويجر هزائمه…كم فتحنا صدورنا العارية للريح ولم نجن غير النصال…وذكرى خيباتنا الجميلة التي مر منها الكثير وبقي منها أكثر.
هل ننتظر ؟ هل ننتحر؟ هل ندفن خيبانتا في الكتابة كما تعودنا؟ ثم لا تنسي أني صاحب قصيدة “الحزن في بلادي قدر” التي تفاعل معها القراء بصورة لافتة:
و تسألني ،يا ولدي،
عن سرّ حزن القمر
و عن سرّ التجاعيد
في وجه
الوطن
و تسألني يا ولدي
عن الصمت
في أوراق
الشجر
الحزن يا ولدي
في بلادي قدر
يزهر مثل الورد
في الشفتين
يتجدّر في القلب
مثل الشجر
– هل للغربة والبعد عن مسقط الرأس – القصر الكبير – تأثير في كتاباتك الأدبية ؟
القصر الكبير مدينة صغيرة وجميلة (في عيوننا طبعا) مدينة عريقة معروفة بريادتها التاريخية ودورها الحضاري. شهدت أرضها الطاهرة معركة وادي المخازن التي تنطوي على أبعاد رمزية لا يمكن ان يغفل عنها أبناء الوطن الغيورين. إنها المدينة المعلقة في القلب والذاكرة. وقد شكل الحنين إليها بسبب البعد عنها دافعا قويا للكتابة والإبداع. ويضم ديواني “تغريبة مصطفى الغرافي” قصيدة عن القصر موسومة بـ “قصر الأحزان” أقول فيها:
يستيقظ القصر في ذاكرتي طفلا
يهاجر في الغد والأمس/عصفورا
يسافر عبر المسافة/ يؤاخي
بين فصول الذكرى ويمتد في
الزمن زهرة أقحوان وحزمة
من نور.
في ذاكرتي يتفجر القصر عرسا
ويكبر حقــــــلا وبشارة
وفي حضرة الجنون أنسى غواية
الحرف المشاكس/ أحترف البوح/
يبعثرني الموج/ أسميني المحال /
– ما موقفك من القضية الأمازيغية باعتبارها فكرا اختلافيا مغايرا للبنية الفكرية العربية التي تتفكك اليوم ؟
المكون الأمازيغي عنصر أساس في تشكيل الهوية الثقافية المغربية، ومظهر من مظاهر الخصوصية التي تقبل التعدد والتنوع اللغوي والعرقي والثقافي باعتباره ملمحا حضاريا . إن الوعي بهذه السمة التي تميز الهوية الثقافية المغربية المنفتحة كفيل بتجاوز كثير من الاحتقان والتوتر بين مكوني الوطن.
المسألة الامازيغية تحتاج إلى نقاش هادئ بين عقلاء الطرفين، بعيدا عن الانفعال والتشدد الذي من شأنه أن يوصل النقاش إلى الطريق المسدود. ولعل المثال الأبرز الذي يمكن استدعاؤه للذهن في هذا السياق، الولايات المتحدة الامريكية التي استطاعت أن تحل المشكلات الناجمة عن التناقضات الإثنية على نحو مبهر.
نحتاج في المغرب إلى التبصر، من أجل إيجاد حل يمكن الجميع من المشاركة في خدمة الوطن حسب موقعه ومؤهلاته. ولعل تمكين الآخر المختلف لغويا وعرقيا وثقافيا من المساهمة في أعراس الوطن، من شأنه أن يمثل المدخل المناسب لتجاوز المعضلات التي تثيرها مسألة التعدد الاثني واللغوي والفكري.
– كيف تنسلخ من ذاتك الشاعرة وتتقمص دور الناقد الأدبي ؟
بالشعر تتحقق إنسانية الإنسان. فالشاعر إنسان مفرط في إنسانيته إذا ما استعرنا تعبير نيتشه. ولذلك قال فيكتور هيكو: “إن الله يخلق الشعراء بمرسوم خاص” الشعر الجيد هو النابع من القلب وهو الذي يجد فيه كل قارئ تعبيرا عن حالته وكأنه قيل في وصف إحساسه .
فالشاعر كما يقول ابن رشيق: هو الذي يشعر بما لا يشعر به غيره”، أي أنه يوصل إحساسا لقارئ لا يستطيع التعبير عنه .
الشعر وجع…لكن ماذا نفعل لقد فشلنا في كل شئ ولم يبق لنا سوى الشعر نبثه شكوانا ونجوانا. إنه الحصن الاخير الذي تلوذ به الذات الشاعرة حتى تحافظ على نفسها من التحطم والانهدام.
أما النقد فمجال لإجراء العمليات الذهنية، وتجريب آليات تفكيك النصوص والخطابات، وإعادة تركيبها من أجل الوقوف على مختلف الأبعاد الدلالية، والجوانب الرمزية الناظمة لنسيج النص والمشكلة لبلاغته المخصوصة.
النقد كلام على الكلام بتعبير أبي حيان التوحيدي. وهو بذلك ممارسة إبداعية بوصفه غوصا في اعماق النصوص واستماع لنبض الخطابات من أجل استكناه أسرارها، ورصد الطرائف المختلفة التي تتشكل من خلالها الجماليات..
إن النقد، تبعا لهذا التصور، ليس قواعد وقوانين فقط، ولكنه بالإضافة إلى ذلك مبادئ وحدود عامة، يسترشد بها الناقد الأدبي في سبر حدود السمات البلاغية والجمالية المتحققة بأقدار ونسب متفاوتة، في أشكال خطابية مختلفة ومتغايرة من حيث الأشكال والأنواع والصيغ والأنماط. ما مستقبل اللغة العربية والأدب عموما في ظل الرداءة اللغوية والكم الهائل من المتطفلين الذين لا يمتون للكتابة بصلة؟
لقد تم استسهال الأدب بعد هجرته الى المواقع الألكترونية. فأصبح النشر سهلا لا يكلف البعض سوى كتابة أسطر مختلفة الطول والقصر لتسميها شعرا، وهلوسات يطلق عليها تسمية قصة قصيرة جدا. لقد كان الرعيل الأول من المبدعين الذين يتسحقون هذه التسمية فعلا يتهيبون النشر، فلم ينشر الشاعر المغربي القدير محمد الخمار الكنوني سوى ديوان واحد هو: “رماد هسبيريس” ، ولم يعرف احمد المجاطي سوى بديوانه “الفروسية”، ولكنها أعمال خلدت أصحابها وبوأتهم المكانة التي يستحقون، أما أصحاب البطولات الفيسبوكية، فسيسقطهم التاريخ من حساباته جملة وتفصيلا عندما يكتب تاريخ الأدب العربي الحديث.
– هل يمكننا الحديث في شعر محمود درويش عن موت القيم و البطولة العربية؟
لقد كرست منذ عشر سنوات تقريبا، بحثا تناولت فيه دراستي لرائعة درويش مديح الظل العالي. إشكال الشرط الجمالي في شعر درويش. ما هي المقومات الجمالية والابداعية التي توسل بها درويش من أجل التعبير عن آلام الشعب الفلسطيني”، كيف حول التجربة الواقعية ممثلة في خروج الفلسطينيين من تونس إلى تجربة شعرية، لأني لاحظت أن درويش لا يذكر إلا مقرونا بالقضية الفلسطينية، وقد كان يضيق هو نفسه بذلك .
لذلك انطلقت في فكرة البحث من الآتي: إن ما يكتبه درويش شعر وليس منشورات سياسية. وقد اهتديت من تأمل القصيدة أن قصيدة محمود درويش تميزت باستخدام تقنية تعبيرية هي “السمة المركبة”، ولذلك قسمت البحث إلى ثلاثة فصول: الواقعي والجمالي – الغنائي والملحمي- السردي والدرامي .
وقد حاولت أن أقدم وجهة نظر مختلفة لقراءة درويش، تسعى الى البحث في جماليات شعره انطلاقا من سؤال ما الذي جعل من قصائد درويش شعرا، بعيدا عن التعاطف مع الموضوع الفلسطيني، لان جمال القضية أو شرعيتها لا يصنعان شعرا جيدا ولكن الأمر يحتاج الى شاعرية فياضة، يتجادل فيها الواقعي والجمالي على نحو مترابط ومنسجم. وهو ما تجسد بشكل واضح في تجربة درويش الشعرية: بعد سلسلة من الهزائم والانكسارات، بدءا من انهزام الجيوش العربية أمام العصابات الصهيونية، لتحدث النكسة و تنسلخ فلسطين من جسد الأمة العربية.
مرورا بإجهاض الحلم القومي بعد انفصام الوحدة بين مصر وسوريا، إلى نكسة يونيو 1967م، وما ترتب عنها من هزيمة العرب، جاء الاحتياج الإسرائيلي للبنان وحصاره بيروت 1982م. فكان طبيعيا أن تؤثر فجيعة بيروت –بما تمثله من إجهاض للحلم القومي وتكريس للهزيمة والإحباط- في نفسية درويش، الذي عايش هذه الفجائع والانكسارات، وتفاعل معها كمثقف عربي يحمل وعيا ثوريا وشاعرا ملتزما بقضايا أمته المصيرية، حيث أحس درويش –إلى جانب شعراء آخرين- باغتراب حاد، جعله لا يرى في الواقع العربي السائد، سوى الفراغ والخواء،غير أنه ينبغي التنبيه هنا إلى أن الاغتراب الحاد الذي أحسه درويش، وتسلل إلى مفردات وجمل قصائد درويش، ليس اغترابا عدميا، كذلك الذي عرف عند الشعراء الأوربيين، وبلغ ذورته مع البيان الدادائي. بل هو اغتراب ثوري، إذ ينبع من استسلام أو إحساس الضياع، بل يصدر عن وعي ثائر، يرفض الواقع القائم ويعلن الرفض .
لقد كان درويش يحلم دائما أن يكون شعره ملحمة الحياة العربية الحديثة، لكن التجارب الأليمة التي عاشها شعبه أملت على قصائده إيقاعا مأساويا حزينا وموجعا. لم تفسح له الأحداث الفاجعة التي تعاقبت على أرضه وشعبه مجالا لتدشين القول في البطولات التاريخية المنتصرة. لم يعد يملك أمام الخيبات العربية المتوالية سوى الغناء لانكسار الروح وتمجيد ملحمة الانتصار التي يصنعها الفلسطيني بدمه وعذاباته. وقد مثل هذا النوع من الغناء أرقى أشكال المقاومة لأنه يقوي الإيمان بالمستقبل العصي على الولادة لكنه الفجر الموعود الذي يتخايل بين أرواح الفدائيين، الذين يقومون بأنبل الأفعال الإنسانية في مواجهة الموت والحصار : “تربية الأمل”.
وبعد أن غنى درويش طويلا للشهداء، أنهكه الموت الجماعي وانكفأ على ذاته يبثها أحزانه وأشجانه في مجموعة من دواوينه الأخيرة، مثل “لا تعتذر عما فعلت“، و”لماذا تركت الحصان وحيدا”، و “سرير الغريبة” إلى “حالة حصار”، و”كزهر اللوز أو أبعد”، وانتهاء بنص “في حضرة الغياب” مرورا بـ “الجدارية” التي كرسها درويش بكاملها لموضوعة الموت.
يظهر التأمل الدقيق في قصائد درويش الأخيرة أن الرؤيا الشعرية فيها أصبحت تميل إلى الانكفاء على الذات، حيث تتعدد المشاهد وتتنوع من أجل نقل هموم الذات وأشجانها في تكثيف شعري فياض وأخاذ. لقد اكتملت أساطير الشاعر التي بناها من الاستعارات الفذة والحزن الشفيف. ولذلك أصبح الإيقاع في هذه القصيدة أقرب إلى غناء المهد، لأن العزف لم يعد جماعيا ملحميا يمجد البطولة التي تتخذ من الشهادة سبيلا لها، وإنما أصبح عزفا ذاتيا منفردا يميل إلى الغنائية المشبوبة التي تفيض عن حدود الذات وتجري أسيانة عذبة.
أدرك درويش في هذه المرحلة من مسيرته الفنية، أن الشعر لا يقوم بدوره في التعبير والتثوير على نحو مباشر، وهذا ما يفسر التحول النوعي الذي ميز قصائده الجديدة مقارنة بالقديمة. إذ بات يتعامل مع الاستعارات باعتبارها حقيقة. وهنا صك درويش أسطورته الشعرية .
– هل سيعرف الموضوع الجمالي انعطافا نوعيا نحو ما هو سياسي واجتماعي ويومي ووجودي ؟
إن الشعر انفعال بواقع واستحضار لوجود ومحاورة للموجودات، من أجل التعبير عن تجربة وجدانية من خلال واقع معين هو واقع الشاعر نفسه، وواقع الجماعة التي ينتمي إليها ويعيش بين ظهرانيها، ولذلك كانت وظيفته أن يقدم رؤيا شاملة إلى الحياة وليس لها أو عنها فقط، لأن الشعر ليس مجرد نقل مباشر للواقع أو تكريس لواقع قائم، أو مجرد مروج للثقافة السائدة، بل إن الشعر –هو بحث محموم عن الممكنات في الواقع- يساهم بفعالية في إبداع أشكال وواقع مطلوب من المجتمع أن يتطور إليها.
وبذلك يتحول الشاعر من التعبير عن “أناه” الضيقة المحدودة إلى التعبير عن تطلعات “الأنا الجماعية”، إذ لا يمكنه التعبير عن خصوصية فردية إلا من خلال خصوصية الجماعة التي يعيش بينها.
كما أن تصوره للواقع مشروط بتصور الجماعة لهذا الواقع، حيث تمتزج قضية الفنان الشخصية بالقضية العامة لوطنه، ويدخل في علاقة جدلية مع روح أمته.
وأهم ما يميز النص الأدبي عموما –والشعري على نحو أخص- هو أنه لا يتناول موضوعاته بشكل عار وساذج. بل يعمد إلى خلق (واختلاق) مجموعة من الوقائع والأحداث التي يستمدها من الواقع المعبش. ويعيد صياغتها لتشكيل صورة جديدة مغايرة للواقع الذي نعيشه. ولعل هذا ما يفسر لنا انقراض بعض الأعمال “الأدبية” التي راهنت على الأحداث المعاصرة لها، إذ بمجرد زوال الأحداث التي دعمتها ووفرت لها قاعدة قرائية واسعة في حينه، تدخل هذه الأعمال منطقة الظل والنسيان، لأنها لم تعتن بالمطلب الجمالي الذي هو أساس كل عمل فني يستحق هذه التسمية. بخلاف الأعمال التي تراهن على الموضوعات الجوهرية العامة، والأزلية كقضية المعرفة – الحب – الخلود… فإنها تستمر في الوجود على امتداد الزمن. كما تحتفظ بقدرتها التأثيرية، على الرغم من اختلاف الأزمنة والبيئات، لكونها تستمد أهميتها من شرطها الجمالي، ومن راهنية الموضوعات والقضايا التي تطرحها.
– ما موقفك من مسألة تبعية الإبداع في المغرب للمشرق؟
هناك مقولة متواترة عبر العصور مؤداها “أهل المشرق اهل إبداع وأهل المغرب أهل فقه وهوامش”، مما يفيد أن الإبداع الحق مصدره المشرق، في حين ينحصر دور المغاربة في الشرح والتعليق ووضع الهوامش. مع الاعتراف بدوره المهم في تمويل المشرق بالفقهاء والمتصوفة.
من الواضح أن هذه المقولة في منطوقها ومفهومها تسعى إلى أن تجعل المغرب تابعا إبداعيا للمشرق. وهو ما تختزله المقولة الذائعة الصيت “بضاعتنا ردت إلينا”، التي قالها الصاحب بن عباد عندما وصله كتاب”العقد الفريد” لابن عبد ربه. وفي ذلك توكيد للرأي الذي يقرر أصحابه، أن المغاربة كانوا على الدوام مفتونين بالمشرق وماخوذين بانتاجات أعلامه.
وقد ألف عبد الله كنون كتابه “النبوغ المغربي في الادب العربي” من أجل إبراز الإسهام المغربي في الادب العربي. ومن المعاصرين نجد أحمد المجاطي الذي كتب رسالته الجامعية “ظاهرة الشعر الحديث”، دون أن يشير إلى نصوص الشعراء المغاربة ودورهم في تطوير القصيدة الشعرية الحداثية. وهو أمر من شأنه أن يثير كثيرا من الإرباك والإحراج بالنسبة للمبدعين والنقاد المغاربة .
كيف لشاعر وباحث مغربي يقدم رسالة إلى جامعة مغربية، ويناقشها أساتذة جامعيون دون أن يشير لا من قريب ولا من بعيد الى المتن الشعري المغربي. بعيدا عن “عقدة المشرق”.
أقول إن الأمر بالفعل ظاهرة تحتاج الى مزيد تحقيق وتدقيق من أجل الوقوف على أسبابها وتحديد ملابساتها وزور نتائجها.
– حدثنا عن تجربتك في النشر بالمجلات العربية وعلى رأسها مجلة عالم الفكر الكويتية؟
يشكل النشر في مجلات رصينة ومحكمة مناسبة بالنسبة لباحث مثلي، مازال في أول الطريق، لوصل أعمالي إلى الباحثين والدارسين المتخصصين في الدراسات الأدبية في الوطن العربي، مما يسمح بالتفاعل البناء والمثمر. وفعلا حظيت دراساتي التي نشرتها في “عالم الفكر” و”الفكر العربي المعاصر” و”الرافد” و “وجهة نظر” و “أبابيل” بتنويه طائفة من الباحثين المقتدرين بل إن بعضهم اعتبرها قيمة مضافة إلى الدراسات النقدية والبلاغة في الوطن العربي.
والحق أقول إنني لم أكن أتوقع هذا التجاوب المنقطع النظير الذي فاق كل توقعاتي. هذه مثلا شهادة الباحثة زهرة كمون مديرة النشر في دار أمل التونسية: “كنت قد قرأت منهاج البلغاء لحازم أثناء دراسة أعددتها عن مفهوم الشعر، و قرأت في كتابه ما قرأه كل من درس كتاب حازم، وكان أقصى ما توصلنا إليه أن حازما قد صاغ أنضج مفهوم للشعر، ولكن دراستك أستاذ مصطفى دفعتني الى العودة للكتاب من جديد، فقد استطعت أن تقرأ كتاب حازم قراءة جديدة في ضوء أحد المناهج الحديثة وهو المنهج التداولي ونجحت في دفعنا لقراءة الكتاب من جديد، لنرى فيه ما لم نره سابقا. تهانئي لهذه الدراسة القيمة والرائدة وأتمنى أن أقرأ بقية دراساتك لأني واثقة أنها ستكون كهذه الدراسة دقة لغة ووضوح منهج”.
وفيما يخص دراستي” البلاغة والإيديولوجيا- نظر بحثي في العلاقة الملتبسة بين المعرفة البلاغية والمطالب الإيديولوجية”، أقتبس هنا من شهادة الأستاذ خالد سليكي الكاتب المغربي المقيم بمانشستر:”تمكنت من قراءة بحثك القيم حول البلاغة والإيديولوجية، وهو هام ومفيد ومثير للنقاش. وأحييك على ما بذلته من مجهود في الموضوع.
كما أنوه إلى أن خلاصة البحث رائعة ومثيرة لأكثر من قضية تهم خطابنا البلاغي والتراثي بأسره.“
– كلمتك الختامية في هذا اللقاء ؟
عندما أتحقق من عدم صلاحيتي لجنس من أجناس الكتابة، سأهجره غير آسف لأجرب اختياراتي في مجالات كتابية أخرى توافق مواهبي. وإذا اكتشفت أنني لا أصلح للكتابة أصلا ، سأهز كتفي وأمضي غير عابئ سوى بأحاديث قلبي العليل. وقد أردد من محفوظاتي الشعرية القديمة:
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ** وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا.
إن الخوف من الفشل، يجعلني أتهيأ له كما يليق بشاعر نذر نفسه للكتابة، ويخشى أن يصبح واحدا من صناع الرداءة .