لم يكن سعيد بنجبلي سيئا كما يعتقد الجميع، ولكنها الصحة حينما تغدر بالمرء فتقلب حياته رأسا على عقب، وحينما أقول الصحة فإني أقصد الصحة بنوعيها الجسدية والنفسية، وما أخطر الثانية حينما تستبد بالإنسان، وتفتك بمصيره وتحوله إلى حطام.
تعرفت على الناشط والمدون المغربي سعيد بنبجلي عام 2009، وهي السنة التي انضممت فيها لحقل التدوين بعد خروج مدونتي ” القلم البريء للمقالات الإجتماعية” لأرض الواقع، إذ راسلني بنجبلي يطلب مني الحضور للمؤتمر التأسيسي لجمعية المدونين المغاربة بعد اطلاعه على مدونتي وإعجابه بمحتواها كما صرح لي وقتئذ، ولأنني كنت حديثة الالتحاق بالميدان ولا أفقه الكثير عنه رفضت، وأخبرته أنني أفضل أن أشتغل في الظل، لكوني أحب الهدوء وأكره صخب الأضواء وضجيج الكاميرات، لم يرضه كلامي وألح أكثر في أن أحضر مخبرا إياي أن الاختباء خلف شاشات الحواسيب لن يجدي نفعا، إذ لا بد من المواجهة وإسماع صوت المدون المغربي وهذا لن يتسن إلا بالخروج الميداني والنضال من أجل تحقيق مكاسب تعود بالنفع على البلاد والعباد.
ترك لي فرصة صغيرة للتفكير وعاد يلح علي من جديد في الحضور، ويذكرني أن المرأة المدونة في المغرب عددها قليل جدا ومن العار ان تكون متواجدة وتتوارى إلى الخلف خصوصا إذا كانت تقدم عملا محترما ومشرفا.
ناقشت الموضوع مع أسرتي ولم يجدوا حرجا في حضوري لهذا التجمع المغربي بالعاصمة المغربية، فسافر والدي بصحبتي وكان برفقتنا المدون عبد الرزاق التابعي الذي كان واحدا من بين المنسقين الكثر لإنجاح هذا الحدث التدويني المتفرد.
حين وصولنا قاعة الإجتماع التقيت بسعيد بنجبلي وهو يهم بالخروج من القاعة إلى قاعة أخرى في سهر على ما تبقى من ترتيبات، سلم علي وعلى والدي ونادى على المدونة سعاد صالح البدري ( رحمها الله) التي تولت بدورها عملية الترحيب بي وقدمت لي ورقة الحضور لملء معلوماتي الشخصية بها من إسم وعنوان وهاتف واسم المدونة وتوقيع ..
أخذت مقعدي بين الحضور، والتقيت بالشاعرة العراقية صبيحة شبر، ورأيت الكثير من الوجوه المعروفة في الساحة الإعلامية والصحفية ووجوها أخرى لا أعرفها.
كان عدد النساء قليل جدا كما سبق وأخبرني بنجبلي، لم يكن يشغلني التعرف عليهن أو على غيرهم من المدونين الذكور بقدر ما كان هدفي معرفة ما سيسفر عنه هذا المؤتمر الوطني وهذا الجمع المتنوع من المدونين وأنا أنصت للمداخلات والاقتراحات و..و…
كان سعيد بنجبلي يتدخل كل حين لفض اشتباك بين مدون وآخر، فالآراء تختلف، والنزعات الفكرية مختلفة، والأطياف متعددة لدرجة التضاد والقطع.
كنت أتابع من مكاني بتركيز ما يدور في هذا اللقاء التدويني وأسجل بعض الملاحظات، لأمدها في النهاية لسعيد بنجبلي، أو ليس هو الذي ألح في أن أحضر ؟
كانت بعض ملاحظاتي إيجابية، وبعضها الآخر فيه استياء من بعض من تواجدوا في هذا الجمع العام التأسيسي والذين كانوا يدافعون عن قضايا خارج نطاق العادي المألوف من مثلية وغيره ..
احتفظت بملاحظاتي لحين رجوعي إلى مدينتي الأم القصر الكبير، أشار إلي بنجبلي وأنا أتحين المغادرة صحبة والدي إلى أن هناك حصة مسائية أهم من الأولى الصباحية، سيتم فيها انتخاب المكتب والتصويت على أعضائه من رئيس ونواب وغيره من الجاري به العمل في تأسيس أي جمعية مغربية.
بقيت إلى المساء وكنت من بين المصوتين على سعيد بنجبلي رئيسا لجمعية المدونين المغاربة، وفور تشكيل المكتب رحلت عن المكان.
سعيد بنجبلي الذي رأيته في هذا الجمع العام ليس هو سعيد بنجبلي بعده، من رأيته يوم تأسيس جمعية المدونين المغاربة كان مغربيا شغوفا بدينه الإسلام، محبا لوطنه غيورا عليه ويريد له الخير، لم ألاحظ عليه أي علامات اضطراب في السلوك أو غيره، بل كان يقف واثقا من نفسه أثناء الحديث، ويفض نزاعات كثيرة بين المدونين المتدخلين وإن كان ببعض التوتر أحيانا لأن الصراخ أحيانا كان يعلو قاعة الإجتماع .
تواصل معي سعيد بنجبلي بعد أيام قليلة من عودتي للقصر الكبير من اللقاء التدويني، مددته بملاحظاتي وعبرت له عن استيائي من حضور بعض من كانوا يدافعون عن قضايا وقيم لا تمثلني كمغربية مسلمة، أكد لي أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وأن تواجد أولئك كفقاعات سرعان ما ستتبخر في الهواء وتنطفىء ولن يدوم إلا السليم.
جاءت الانتخابات الجماعية في نفس السنة ( 2009)، وأرسل سعيد بنجبلي لعموم المدونين إخبارا يفيد تنظيم حملة ضد الفساد الانتخابي يقودها المدونون، أطلقت مدونة خاصة بهذا الشأن حملت عنوان ” مدونون ضد الفساد الانتخابي” رصد من خلالها المدونون العديد من الخروقات صوتا وصورة وأحيانا بالكتابة، كنت من ضمن المشاركين بأكثر من مقال فيها، وقد كانت حملة ناجحة بكل المقاييس تابعها العديد من المهتمين وكثير من المنابر الإعلامية، إذ عكست أهمية دور المدون في الحياة العامة.
كان سعيد بنجبلي من دعا إلى هذه الحملة وهو في قمة نشاطه وحماسه من أجل الرقي بالعمل التدويني في المغرب، ومن بعدها كان الصمت والسكون. ولعل من حسنات الحضور للمؤتمر التأسيسي لجمعية المدونين المغاربة بالرباط أن تعرف أصحاب المدونات على مدونات غيرهم، فانفتحوا عليها وصار كل مدون مهتم بمجال معين يقرأ لزميله الذي يدون في المجال ذاته، بمعنى مثلا أنا أدون في المجال الإجتماعي من يدون في نفس مجالي صار مطلعا على ما أنشره وأكتبه، في إطار تبادل روابط الكتابات المنشورة والمقالات والنصوص، وأحيانا كنا نفتح نقاشات حول ظواهر وأسباب تفشيها بهدف الخروج برؤى وتصورات من شأنها النهوض بمجتمعاتنا..
مع مرور الوقت خمد كل شيء، حل الفتور محل الحماس والحيوية والنشاط، علمت بانقسامات وانشقاقات داخل الجسم التدويني، لم أشغل فكري بما يحدث وركزت فيما كنت أنجزه على مدونتي وأسعى لتقديمه، إلى أن تحدثت مرة إلى زميلتي المدونة الراحلة سعاد صالح البدري رحمها الله أستفسرها عن جمعية المدونين المغاربة ومآلها وسر اختفائها، فكان جوابها يحمل في ثناياه الأسف والحزن على جهود نسفت بسبب عدد من المشاكل والمزايدات. حاولت أن أعرف منها أكثر بحكم قربها من سعيد بنجبلي وباقي الزملاء بالمكتب وخارجه، فردت علي بأن الموضوع طويل جدا ويحتاج لجلسة ميدانية مطولة لا لحديث على الشبكة العنكبوتية أو مكالمة عبر الهاتف.
طويت الموضوع ومعه حيرتي، وانتظرت أن تتسنى لي فرصة اللقاء بالصديقة العزيزة سعاد لتحكي لي خفايا قصة الجمعية التي أسست وتبخر وجودها في الساحة دون أن يعلم الجميع بالأسباب، أو بالأحرى من كانوا في نفس وضعيتي فقط من الذين ينتظرون الجديد عن الجمعية فلم يعرفوه.
انشغلت سعاد رحمة الله عليها بمرضها الفتاك وما يتطلبه من علاجات وتنقل بين المدن، وانشغلت بالتزاماتي الشخصية، وشاء القدر أن تخبرني أنها ستزورني بالقصر الكبير بحكم أنها متواجدة بالعرائش عند إحدى شقيقاتها، رحبت بها واستضفتها في بيتي ليومين، لم أشأ ان أثقل عليها بالأسئلة احتراما لوضعها الصحي الذي أخذ حيزا كبيرا من حديثنا بدل الحديث عن جمعية المدونين المغاربة المختفية وما طبعها من ملابسات أدت إلى إجهاضها في وقت قياسي.
عادت سعاد رحمة الله عليها من حيث أتت، وتركت بداخلي مجموعة من الأسئلة التي كنت أود طرحها عليها، لم يسعفني الحظ في تلقي الإجابة عنها حيث بلغني نعيها بعد سنوات قليلة من اللقاء -تغمدها الله بواسع رحمته -.
صوبت اهتمامي نحو تحضير ما يفيد على مدونتي، ونسيت موضوع جمعية المدونين المغاربة وما يرتبط بها من أخبار المدونين بما فيهم سعيد بنجبلي.
مر وقت ليس باليسير على هذا الحال، إلى أن صارت بعض منشورات بنجبلي وفيديوهاته حول الإلحاد تصلني عبر إشعارات من الفيسبوك، أو أثناء تصفح صفحتي بهذا الفضاء، لم أصدق في البداية ما رأيت، أبديت عدم اهتمامي، ومع تكرار الأمر وجدتني أرسل إلى بنجبلي أقول له بالحرف:
ش هاد الشي ا السي سعيد؟ كنعارفوك زعما بعقلك
رد بنجبلي علي على الفور:
حتى أنا كنت بحالك مافاهم والو أأسماء عاد فهمت الحياة.. هاكي شوفي
كان يرسل إلي فيديوهات تتحدث عن الإلحاد وتحمل عناوين مشينة، رفضت تشغيلها بالطبع وحذفتها فورا، وأتبعت ذلك بحظر بنجبلي من لائحة أصدقائي وقاطعته بشكل نهائي لحين توصلي أمس بنعيه عفا الله عنه وغفر له وتجاوز عنه.
لم يقف بنجبلي للأسف عند حدود الترويج لفيديوهات الملحدين غيره، بل تعداه لإعلان إلحاده هو، وادعائه النبوة .. إلخ، وكان هذا ينتشر بشكل سريع على وسائل التواصل الإجتماعي دونما الحاجة لبقائه بلائحة الأصدقاء أو حضوره بقائمة المحظورين.
كان بعض رواد وسائل التواصل يروجون لفيديوهات بنجبلي على سبيل السخرية بدل تجاهلها وتجاوزها، فتتوسع دائرة الوصول إلى أكبر عدد من مستعملي الإنترنيت لتشمل العموم، وكأنهم أمام شخص عادي طبيعي وسليم العقل، والأصل أنه مريض مرضا صعبا ولا حول ولا قوة إلا بالله،
وبعضهم كان يروج لادعاءاته المجنونة بغرض التسلية والاستمتاع والتخفيف من ضغط الحياة، بينما كان صنف آخر يطالب بتدخل علاجي له على اعتبار أنه يعاني معاناة حقيقية جراء اضطرابات نفسية سلوكية خطيرة، دونما الحديث عمن كانوا يصفقون له ويشجعونه على المضي قدما فيما هو مقبل عليه.
بين هؤلاء وأولئك كنت أقف موقف الإشفاق على حال هذا الإنسان الذي انقلب وضعه رأسا على عقب، وكأن وضعه هذا يقول لنا لا تأمنوا مكر الدنيا وتقلبها، لا تغتروا وتظنون أنفسكم قد أفلحتم وأحسنتم صنعا، فلستم تدرون أي منقلب تنقلبون، ولعلها الرسالة التي أحملها إلى عموم من يتشفى في بنجبلي، إذ لا شماتة في الموت، ولا شماتة في المرض،مادمنا كلنا مصابين ومعرضين للإصابة.
خيرنا من سأل ربه حسن العاقبة وحسن الختام، فلنترك له الحكم جل جلاله، فهو سبحانه كفيل بعباده، يعلم ما لا نعلم، هو الرقيب الحسيب، هو الرحمان الرحيم، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، وليحمد كل امرىء منا ربه أن عافاه مما ابتلى به غيره، بدل من أن ينتشي بآلام وأوجاع غيره.
رحم الله سعيد بنجبلي، ورحم سعاد صالح البدري، ورحم حسن المعنقش، وكل من لم أعلم بوفاته من المدونين. عفا الله عن المذنبين، وجازى المحسنين خير الجزاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هدانا الله جميعا إلى الطريق المستقيم وثبتنا على الدين الإسلامي الحنيف والعقيدة السليمة.
البقاء لله .. إنا لله وإنا إليه راجعون.