كلما زرت المنتزه بغية الاستجمام وجدته في مكانه واقفا في شموخ، وحيدا يتأمل المساحة الخضراء من حوله، أنظر إليه من بعيد في إعجاب وهو كالملك المتربع على عرشه، لا أحد من الطيور يقترب منه وكأنه يفرض احترامه فرضا، جل الطيور التي من فصيلته وخارجها بأحجامها المختلفة الصغيرة والمتوسطة ترفرف فوق سمائه، ولا يجرؤ أي منهم على الدنو منه واقتحام عالمه، يتحرك متى شعر ببعض الملل حتى إذا ما وجه نظره صوبي قابلت تحركه بابتسامة عذبة هز لها رأسه وكأنه يرد علي محييا.
أشير إليه بيدي، وأناديه:
مرحبا صديقي .. أنا هنا. كيف حالك ؟
ينظر إلي من بعيد وألتقط لي صورة معه دون أن أزعزع أمنه أو أعتدي على العشب الأخضر الذي يفصلنا عن بعضنا البعض، أستأذنه فيرتدي حلة المحترم الذي يأخذ صورة مع محبيه في ود وتواضع. هو اللقلاق الوديع أو شيخ اللقالق كما أسميه نظرا لحجمه الكبير.
في كل زيارة للحديقة لابد لي أن أتفقد صديقي اللقلاق الوديع وأمر بمكانه الذي اعتدت أن أراه به، لا أغادر إلا وقد حييته وتبادلنا الابتسام، ولكم أبدو سعيدة حين أجده حاضرا بطلته المعهودة وفي مكانه الموعود كما لو ينتظر زيارة أحبته له. إنه لايبرح المكان إلا بعد أن يرخي الليل سدوله ليلتحق بعشه، وفي كل يوم يعود لحضن مملكته بالحديقة ينعم بشمس الله وضوء الله وهواء الله وخضرة الربيع ودفء القلوب البشرية التي تحبه مثلي وتغمره بالتقدير.
قد تعجز الحياة عن إنجاح علاقة صداقة بين بني البشر فيما بينهم لعدة اعتبارات: أهمها ترجيح كفة المصالح على كفة القيم النبيلة، والاحتكام للأنا على حساب وجود الآخر وتضحياته مما يسرع بموت العلاقات مهما بلغت درجة قوتها، إلا أنها تنجح في أحايين كثيرة في ربط علاقات متينة بين الإنسان والحيوان والطيور والنبات، ربما لأنهم مازالوا على عهد الفطرة والبراءة عكس بني البشر الذين قلبوا كل الموازين، وباعوا كل رخيص بالغالي ظانين أنهم ينشدون الفلاح وهم لا يمشون إلا طريق الهلاك والندامة.
صديقي اللقلاق الوديع بالحديقة التي أتردد عليها هو مدرسة لمن يرغب في تعلم دروس الوفاء، ينثر الحب ولا تغريه مباهج دنيا الفناء، شامخ واثق من نفسه ومن مبادئه لاتهزه ريح، ولايتاجر في علاقته بالآخرين درءا للكساد والخسارة.