توفيت جدتي من أبي رحمة الله عليها سنة 1986، تركتني صبية صغيرة لا أفقه شيئا في الحياة غير اللعب، أذكر أننا في ليلة الوداع الأخير كنا ببيتها، تناولنا العشاء برفقتها، ولم يكن يخطر ببال الكبار أن الليلة هي آخر ليلة في حياة الجدة، قضينا أمسية جميلة وتفرقنا كل إلى حال سبيله، غادرنا نحن الصغار رفقة والدينا إلى بيتنا المستقل، وفي الصباح أبلغ الكبار بوفاة الجدة، وهو الخبر الذي شكل مفاجأة كبيرة لهم وأصابهم بالذهول.
بالنسبة لي لم أكن أفهم ماذا يعني موت، بدوت سعيدة فرحة وأنا أرى الناس يدخلون بالأفواج إلى بيت الجدة الراحلة، رغم أني كنت أرى دموعا وأتلقى عبارات مواساة وقبلا من طرف الكثيرين ممن ترددوا على البيت، إلا أني كنت مسرورة بالأمر.
مع الأيام ومع تكرار زياراتنا رفقة الوالدين لبيت الجدة رحمة الله عليها، بدأت أستشف غيابها بين الموجودين، سألت العمة:
– لماذا غابت جدتي كل هذه المدة، لقد تأخرت كثيرا عن الرجوع ؟؟
العمة : الجدة ماتت
قلت : أعرف أنها ماتت وقد تأخرت عن الرجوع.
العمة : الذي يموت لا يعود.
بألم وحسرة قوية قلت: هل تقصدين أنني لن أرى جدتي مجددا؟ هل يعني كلامك أن جدتي رحلت للأبد ؟ ولكني لم أسلم عليها أو أقبلها كما تعودت. هل ودعت دون أن تخبرني ؟
جلست أتمعن كلام العمة وأبحث عن تفسير مقنع أو مبرر أخفف به حزني ووجعي المتأخر، فالموت كان يعني لي – وأنا صبية – السفر لمدة ثم العودة، وفي هذه اللحطة الموت يأخذ بعدا آخر في دلالته، بعدا مرا مؤسفا له ارتباط بالفقد الأبدي، ولعلها الإنطلاقة الأولى نحو عوالم النضج والإدراك الحقيقي للأمور.
كانت النار تأكل داخلي، وتخفيفا لحرها شرعت في التنقل بغرف البيت غرفة غرفة وأنا أسترجع ذكرياتي مع جدتي المتوفاة إلى أن وقفت بغرفتها الخاصة فانهمرت دموعي بشدة، وزارني طيفها واستحضرت لحظاتي الجميلة بها رفقتها، بكيت وبكيت وكان بكائي متأخر جدا وطويل المدة وكأنه كان يكفر عن ذنوب جهله بمعنى الموت في السابق، متى شعرت ببعض الاختناق من شدة البكاء تسللت خفية من الجميع إلى المرحاض أغسل وجهي وأعود إلى خلوتي مع جدتي الراحلة.
لا حظ الأهل غيابي عن الجلسة، وجدت العمة تسألني:
أين تختفين ؟؟
لم أرد عليها، فضلت أن أكتم حزني على فراق جدتي التي كنت مرتبطة بها في صغري ارتباطا كبيرا، فضلت أن أهدي جدتي دموعي وأبثها أوجاعي وهي في قبرها دون أن يتقاسمها معي أحد، دعوت لها بالرحمة والمغفرة ورجوت لها الله تعالى أن يحسن إليها مثلما كانت تحسن معاملتي، عاتبتها في سري كونها رحلت من دون أن تخبرني كي أقبلها وتقبلني ونودع بعضنا على أمل أن نلتقي من جديد عند رب العالمين في الجنة إن شاء الله.
لروحك الفاتحة والسلام جدتي أم أبي الغالية، رحمة الله تعالى عليك ومغفرته ورضاه.