أحسنت الأستاذة الفاضلة الدكتورة نبوية العشاب غاية الإحسان إذ نشرت كتابا من كتب أبيها الأستاذ العزيز المحترم عبد الصمد العشاب عنوانه “أنوار صوفية وإشراقات ربانية لعلماء وصلحاء المغرب”(1).
لقد قدمت الدكتورة نبوية العشاب – حفظها الله – بهذا العمل أنموذجا لما ينبغي أن يكون عليه البرّ بالوالد المشتغلِ بالعلم بعد أن ينتهيَ أجلُه في الحياة الدنيا، فأعدّتْ كتابه، ونسّقتْ موادَّه، وأخرجته إلى دنيا التداول والنشر ليستفيد منه الباحثون المهتمون بموضوع التصوف، فيا ليت العلماء والباحثين يُرزقون جميعا بأولاد كبنت الأستاذ الجليل سيدي عبد الصمد العشاب رحمه الله تعالى، إذن لاطمأنوا على تراثهم العلمي، ولاستفاد القراءُ والمهتمون بأعمالهم في حياتهم وبعد مماتهم.
المضامين
يضم هذا الكتاب الجديد للأستاذ العشاب مواد غنية يمكن إدراجها في ثلاثة محاور هي: التعريف بالتصوف، والترجمة لبعض أعلام المتصوفة بالمغرب، ومختارات من الكتابات الصوفية المغربية.
1- تعريف التصوف
يحتاج الناس كلما اختلط عليهم الصالح والطالح، وتكاثر من حولهم الادعاء وقلَّ الصفاء، إلى مَن يُذكرهم بالحق تذكيرا. ولما كان مجال التصوف من المجالات التي كثر فيها الأدعياء، وتضاربت فيها الأقوال جيلا بعد جيل، فقد صار من المفيد التذكيرُ حينا بعد حين بمفهوم التصوف الحق حتى يميز الناسُ بينه وبين غيره تمييزا ويُطهّروا أفهامهم تطهيرا.
لذلك عرّف المؤلف التصوف، مع كثرة ما له من تعريفات، فقال: «التصوف هو استسلام المخلوق لخالقه وإلقاءُ مقاليد أموره إليه. وأصل التصوف الانقطاع عن لهو الحياة وملاذها إلا ما أحلّ الله لعباده من الطيبات»(2)، وهو تعريف يرتكز على أمرين هما القول والعمل، الاعتقاد والسلوك، أي اليقين التام في الله تعالى وتفويض الأمر إليه، والعمل وَفقا لما شرعه الحق سبحانه ائتمارا بأمره واجتنابا لنهيه.
ويلاحظ على هذا التعريف أنه لا يُدخل في التصوف حرمانَ العبد مما أحلّه الله له من الطيبات، وهو بذلك ينظر إلى قول الله عز وجل: (قلْ مَنْ حَرّمَ زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) [الأعراف/ 30]، وهذا ما غفل عنه الذين جعل أدخلوا في التصوف حرمانَ العبد من طيبات الحياة الدنيا.
والواقع أن مفهوم التصوف شغل الباحث على امتداد صفحات كتابه، فكان عند ترجمته لبعض الأعلام يجلي تعريفاتهم للتصوف ولعدد من المفاهيم المتصلة به، ويبرز تمثُّلهم لمعنى التصوف في سلوكهم، وذلك للإسهام في مزيدِ بيانٍ لمعنى التصوف الحق حتى ترغب القلوب فيه وترغب عن سواه.
ففي ترجمته للشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني يورد فهمه للزهد قائلا: «وكان يرى أن الزهد الحقيقي هو في خروج الدنيا من قلب الإنسان لا من يده، ولذلك كان لباسه جميلا وأنيقا»(3).
ويقول في ترجمته للشيخ عبد السلام بن ريسون: «إن الذي يطالع في حياة هذا الرجل الكبير يرى أنه كان بعيدا عن دعوى الولاية كما ادعاها غيرُه، وبعيدا أيضا عن ادعاء الكرامات والرؤى، وإضفاء القداسة على شخصه، رغم أن الحوافز لادعاء ذلك كثيرة (…) ولكن ابن ريسون كان فقط تقيا محبا لله ولرسوله، وأعطاه الله القبول في قلوب الناس»(4).
ويذكر في ترجمته للشيخ أحمد زروق أنه «يلحّ في كتابه “عدة المريد الصادق” على التمييز بين التصوف الحقيقي كما هو عند أقطاب التصوف، وبين التصوف الذي يمارسه الأدعياء»(5)، وينبه على أن الشيخ زروق «يفضح بدَع المتصوفين ويردُّهم إلى طريق الحق المبين»(6).
ويستطرد في حديثه عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي إلى بيان الفرق بين معنى خاطئ للفقير عند بعض المتصوفة وبين معناه الصحيح كما يشرحه ابن عطاء الله السكندري(7).
ثم يختم تلك الوقفات الدالة بمقالة سماها “معنى التصوف عند أصحاب الشأن”(8) ذكر فيها تعريفات للأئمة والشيوخ علي بن أبي طالب، وعلي بن موسى الرضا، وأبي الحسن الشاذلي، وأحمد زروق، وأحمد بنعجيبة، ومحمد بن التهامي كنون، وأبي مدين الغوث، وهي كلها تعريفات تقدم التصوف خاليا من الشوائب التي علقت به في مختلف العصور على نحو ما ابتغى المؤلف تقريره منذ الصفحات الأولى لكتابه.
2- تراجم لمتصوفة مغاربة
ترجم الأستاذ العشاب في هذا الكتاب لثلاثة عشر علما من أعلام التصوف والصلاح بالمغرب، وهم: أبو عمران الفاسي (ت430هـ)، والمهدي بن تومرت (ت524هـ/ 1129م)، وأبو العباس السبتي (ت601هـ/ 1204م)، وأبو الحسن الشاذلي (ت656هـ/ 1259م)، وابن الحاج الفاسي (ت737هـ/ 1336م)، وابن زغدان التونسي (ت882هـ/ 1477م)، وأحمد زروق (ت899هـ/ 1493م)، وعيسى بن محمد البطيوي (كان حيا عام 1040هـ/ 1630م)، ومحمد البوزيدي (ت1229هـ/1814م)، ومحمد الحراق (ت1261هـ/ 1845م)، وعبد السلام بن ريسون (ت1299هـ/ 1882م)، والمختار الكنتي (من رجال القرن الثالث عشر الهجري)، ومحمد بن عبد الكبير الكتاني (ت1327هـ/ 1909م).
أفرد المؤلف كلا من هؤلاء بترجمة مستقلة تخبر عن حياته، إلا ثلاثة أعلام هم المهدي بن تومرت وأبو العباس السبتي اللذان وردت ترجمة كل منهما في ذيل نص من نصوصه الصوفية (ص20 وص23-25)، والمختار الكنتي الذي ذُكرتْ ترجمته في فقرة من دراسة تعريفية بمخطوطه “الكوكب الوقاد في ذكر فضائل المشايخ وحقائق الأوراد”(9).
يحرص ذ.العشاب حرصا ملحوظا على ذكر تاريخ وفاة كل مترجم له، إلا إذا تعذر معرفة ذلك كما في ترجمة محمد بن عيسى البطيوي إذ اكتفى بالقول إنه «من رجال القرن السابع عشر الميلادي بمنطقة الريف»(10)، وأورد قول الدكتور حسن الفكيكي عن هذا المتصوف إنه كان حيا سنة 1040هـ 1630م، وذلك لفقدان تاريخ يحدد زمن الوفاة.
ولا شك في أن الحرص على تحديد وفيات الأعلام ينطوي على رغبة في التأريخ لحركة التصوف بالمغرب عبر مختلف العصور، وتلك فائدة من الفوائد التي يخرج بها القارئ من بين صفحات الكتاب.
ويلاحظ المتأمل في “التراجم العَشابية” لأعلام الصوفية بالمغرب أن صاحبها يحرص حرصا على تضمينها بعض الأخبار والمعطيات كلما توفرت له. وأذكر فيما يلي ثلاثة أمور حفلت بها تراجم الكتاب:
– أولها: إبراز تميز المترجم له بين أهل التصوف داخل المغرب أو خارجه. ويتخذ هذا الأمر صيغا متنوعة من بينها:
أ/ سرد جملة من أخبار المترجم له وصفاته تبين علو منزلته وشرف مكانته، كقوله عن الشيخ محمد الحراق: «وتفوق على أقرانه بل وعلى بعض شيوخه، فكان بحرا زاخرا في العلم، وجبلا راسخا في المعرفة. واجتمعت عنده الإحاطة بعلوم الشريعة والأدب والتصوف، فكان في مقدمة العلماء الفقهاء ونابغة من نوابغ الأدب، ومن أكابر شيوخ التصوف ورجال التربية الروحية، وتتلمذ له كبار العلماء..»(11).
ب/ إيراد أقوال لعدد من مشاهير العلماء يشيدون فيها بالمترجم له ويذكرون مكانته. مثال ذلك ما ورد في ترجمته للشيخ عبد السلام بن ريسون من أقوال لأحمد الرهوني حيث وصفه بـأنه كان «كعبة القصاد، وكهف الرواد، وملجأ المضطرين، وحصنا حصينا للاجئين»(12) وللشيخ إدريس الفضيلي إذ وصفه بأنه «كان رحمه الله كثير الأوقاف والصدقات، فعالا للخيرات…حبَّس جميع ما ملكت يده داخل تطوان وخارجها على الضعفاء والمساكين وابن السبيل»(13) وللشيخ التهامي الوزاني الذي حَلاه بأنه «كان أعرف الناس بالحياة كما هي، إلى لطف أدق من نسيم السحر، ودماثة خلق لم تُعرف إلا للأفذاذ القلائل»(14).
ج/ تسمية جملة من تلاميذه والآخذين عنه ليُعلم قدرُه وعُلوُّ شأنه في العلم والتربية، وخير مثال لذلك قولُه عند الترجمة للشيخ أبي الحسن الشاذلي إنه «استقر بمصر ما بين القاهرة زمنا والإسكندرية زمنا. وتزوج ووُلد له أولاد وبنات. وكان يجلس للتدريس بمدرسة الكاملية فيتحلق حوله كبارُ العلماء بالقاهرة أمثال العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، والحافظ المنذري، وابن الحاجب، وابن الصلاح، وابن عصفور»(15).
فهذه ثلاث صيغ اعتمدها المؤلف لتحقيق مقصد من مقاصد عمله، وهو بيان تميز رجال التصوف بالمغرب، وإظهارُ فضلهم على العالم الإسلامي، وهو ما ذكره في الصفحات الأولى لكتابه إذ قال: «ونحن لا نذكر مسيرة رجال التصوف بالمغرب فهم كثيرون جدا، ولكننا سنشير إشارات تاريخية إلى أن الإشعاع الصوفي بالمغرب تخطى حدود الوطن ليشتهر رجال منهم على مستوى المشرق العربي والعالم الإسلامي»(16).
– ثانيها: إبراز الجانب العَملي والبعد الإصلاحي في حياة المترجم له، وهذه إشارة تتكرر في كثير من تراجم الكتاب، كقوله في ترجمة المهدي بن تومرت إنه «لما عاد إلى المغرب شمّر عن ساعد الجد لنشر الوعي بوحدانية الله بين الناس»(17) ، وعن أبي العباس السبتي إن مذهبه «كان مذهبا لخدمة المجتمع»(18) ، وعن محمد بن عبد الكبير الكتاني إنه «سافر إلى الحج، والتقى بأبرز زعماء العالم الإسلامي في وقته، ثم عاد إلى المغرب في عام 1322هـ 1904م مقتنعا بفكرة الإصلاح الاجتماعي والديني»(19) ، وعن ابن الحاج الفاسي إنه ألف كتابه “المدخل” «في تربية المجتمع وبيان البدع التي اشتهرت بها بعض المجتمعات الإسلامية»(20)، وعن أحمد زروق إن «عمله في إصلاح المجتمع يتجلى في محاربة الشعوذة والتدجيل»(21)، وعن أبي الحسن الشاذلي إنه «كان يعيش مع الناس ويخوض غمار حياتهم كما يخوضونها ويستعمل منها ما أحله الشرع ويجتنب ما نهى عنه»(22).
إن هذه الإشارات ونظائرها داخل الكتاب تؤكد ما ذكره المؤلف من أن «تصوف صلحاء المغرب [اقترن] بالقول والعمل»(23)، فالمتصوفة المغاربة مصلحون اجتماعيون، وليسوا رهبانا معتزلين في الزوايا لا يعلمون من أمر الناس والحياة شيئا. بل إن بعض شيوخ التصوف المغاربة لم يكونوا يقتصرون على تربية نفوس المريدين وتخليتها من أمراضها، ولكن الواحد منهم كان يقرن ذلك «بالعمل الجليل الذي قامت عليه رباطات الجهاد المعروفة منذ أن وطئت أقدام المحتلين والغاصبين أرض المغرب»(24) ومن هؤلاء مولاي بوشتى الخمار (ت977هـ/ 1569م) الذي كانت له «طريقة ومريدون يتميزون بأنهم فرسان ورماة يركبون الخيل مثنى مثنى، بحيث يجعل كل راكب ظهره إلى ظهر صاحبه، ويخوضون المعارك بهذه الطريقة»(25).
– ثالثها: ذكر جوانب من معاناة المترجم له وما تعرض له من ضروب الكيد والمكر والحسد والظلم، فنقرأ، مثلا، في ترجمة سيدي محمد الحراق عن منافسيه الذين حسدوه «وسعوا للتخلص منه وإخلاء مجالس العلم بفاس من وجوده، فأشاروا على السلطان مولاي سليمان بانتدابه للقيام بالوظائف الشرعية بالمسجد الأعظم بتطوان (…) لإبعاده عن فاس»(26)، ونقرأ عن كمين نصبه له حساده في تطوان إذ «أوصوا امرأة كانت مشهورة بالفجور أن تترصد له بباب مقصورة مسجد العيون عند خروجه للخطبة والصلاة يوم الجمعة، وعرضت عليه مسألة شرعية تريد الجواب عنها من الشيخ، فأمرها الحراق أن تنتظره بباب المقصورة حتى تنتهي صلاة الجمعة ليعطيها جواب مسألتها، وفي هذا الوقت بالذات كان مدبرو المؤامرة قد جمعوا الناس أفواجا ليشهدوا على الفقيه شهادة الزور، وتولى قاضي تطوان ومعه قائدها جمع تلك الشهادات المزورة ووجهها القائد إلى السلطان مولاي سليمان»(27).
كما نجد في تراجم أخرى ذكرا لمحنة الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني(28)، وتحامل معاصري ابن زغدان عليه(29)، وتعرض أبي عمران الفاسي لمحنة(30)، وتعرض أبي الحسن الشاذلي لمكائد ابن البراء(31).
وأرى أن عناية المؤلف بهذا الجانب في حياة بعض المتصوفة تبتغي أمرين:
أحدهما تأكيد أن رجال التصوف بالمغرب كانوا يخوضون في قضايا الإصلاح، ولم يكونوا من الذين يلقون شؤون الناس وراءهم ظهريا، ولولا خوضهم في جوانب الإصلاح لما أُوذوا. والأمر الثاني: الإشارة إلى أن طريق الإصلاح ليس سهلا ميسورا، وأنه لا بد فيه من مكابدة ومعاناة، وتلك سنة الله في الخلق وأمرٌ مشاهَد على مر الأزمان وتوالي الصلحاء المصلحين.
3- مختارات من أدب المتصوفة
لم يرد المؤلف أن يقدم لقرائه التصوف المغربي في تراجم رجاله فحسب، ولكنه ارتأى أن يعرفهم بهذا التصوف في نصوصه أيضا، فقدم نماذج من الكتابات الصوفية للمغاربة شعرا ونثرا.
– فأما شعرا فقد اختار رائية سيدي محمد الحراق، وتائية سيدي محمد البوزيدي، وتائية سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني.
– وأما نثرا فنقف على تسبيح للمهدي بن تومرت، ودعاء ومناجاة لأبي العباس السبتي. إضافة إلى أبيات وفقرات مبثوثة في نصوص التراجم.
وقد أحسن المؤلف صنعا بجمعه بين التراجم والنصوص؛ وذلك لأننا نقرأ أحيانا – في كتب التراجم المعاصرة خاصة – عن بعض الأعلام فنجدها تسمو بهم وتُعلي قدرهم، ثم نقرأ ما كتبه أولئك الأعلام فنجدهم لا يسمون في نصوصهم سُموَّهم في التراجم، أو نقرأ أحيانا نصوصا لبعض الناس، ثم نجد بعض كتب التراجم تغمطهم حقَّهم وتعطيهم دون ما يستحقونه من تقدير.
لذلك كان جمعُ ذ.العشاب في عدد من مواد كتابه بين التراجم والنصوص مفيدا جدا؛ لأنه يمكّن القراءَ من معرفة العَلم في حياته ونصوصه، فتكتمل عندهم الصورة. كما يبين لغير العارفين أن رجال التصوف هم أهل علم وأدب وليسوا جُهالا اعتزلوا الناس وزعموا أنهم أكثر منهم ذِكْرا وعبادة.
شخصية المؤلف في كتابه
لم يكن الأستاذ عبد الصمد العشاب، في هذا الكتاب، محض جامعٍ لأخبار الرجال من بطون الكتب، مُرتِّبٍ لها كما يفعل بعض كتاب التراجم من المعاصرين إذ “يأخذون كلاما من هنا وكلاما من هنا ليقولوا هذا كتابنا”.
كلا، لم يسلك أستاذنا هذا “المسلك السهل”. وإن الناظر في مواد كتابه يرى من خلفها ملامح من الشخصية العلمية المستقلة لسيدي عبد الصمد العشاب رحمه الله تعالى، سواء في تراجمه أم في تعليقاته على المختارات الأدبية. وأنا أذكر أهم ما يُجلّي شخصيته العلمية في الملاحظات الآتية:
– أولا: لا يكتفي الباحث سيدي عبد الصمد العشاب بجمع الأخبار وترتيبها لصناعة ترجمة للعلم، بل يحقق القول في بعض الأخبار ويبين وجه الصواب فيها. ولنقرأ مثالا لذلك قوله عند التعريف بصاحب “الكوكب الوقاد في ذكر فضائل المشايخ وحقائق الأوراد”: «الشيخ سيدي المختار بن أبي بكر الكنتي مؤلف الكتاب يتصل نسبُه بعقبة بن نافع الفاتح المشهور، وذكَره الأديبُ النّسّابة أحمد بن الأمين الشنقيطي في كتابه “الوسيط في أدباء شنقيط” وأنكر بعضُهم هذه النسْبة مُدَّعينَ أن (كنت) هُمْ مِنْ أمية فلا صلة لهم بعُقبة، وبالرجوع إلى نسَب عقبة نجده كما يلي: “عقبة بن نافع بن عبد القيس بن لقيط بن عامر بن أمية” وهو نسَبٌ متفق عليه عند ابن حجر العسقلاني في الإصابة وأبي الحسن عز الدين الجزري في أسد الغابة»(32).
فانظر إلى رَدّه على مَن أنكر نسبة الشيخ المختار الكنتي إلى عقبة مستندا إلى أن (كنت) من أمية وأمية لا صلة لهم بعقبة، فقد رجع أستاذنا العشاب إلى “الإصابة” و”أسد الغابة” للتحقيق، ولم يُسلم بما قاله بعضُ الناس.
– ثانيا: يفسر المؤلف ما ذُكر عن بعض الأعلام من كلام ينتقص من قدْرهم، وذلك كقول البقاعي عن ابن زغدان التونسي «إنه فاضلٌ حسَن الشكل لكنه قبيح الفعل أقبل على الفسوق، ثم لزم الفقراء الوفائية، وخلب بعض أولي العقول الضعيفة فصار كثير من العامة والنساء والجند يعتقدونه مع ملازمته للفسوق..»(33)، فقد قال ذ.العشاب في تفسير هذا القول وبيان أسبابه: «وأنا أرى أن هذا التحامل على ابن زغدان أتى من أمرين:
أولهما: الدعاية السيئة التي أشاعها عنه أبناء أبي الوفا (شيخ الطريقة الوفائية) لأنه تميز عليهم.
والأمر الثاني: هو حسد معاصريه، وكم من علماء راحوا ضحية هذا الحسد. نسأل الله السلامة من الحسد»(34).
– ثالثا: يتوقف عن الحكم في بعض القضايا إلى أن تظهر معطيات جديدة. ويجد القارئ ذلك عند حديث ذ. العشاب عن شروح الصلاة المشيشية وظهورها خارج المغرب قبل ظهور شروح مغربية لها وسبب ذلك، إذ قال بعدما ذكر ما عرف من شروح للمشيشية مرتبة ترتيبا تاريخيا:
«هذا التصنيف هو تقريبي بناء على ما وقفت عليه. وهو تصنيف يحيلنا على معطيات أخرى غير الأقدمية التي أشرنا إليها. فهناك مثلا وصول صدى المشيشية إلى تونس قبل التعرف عليها بالمغرب (أقصد بذلك تناولها بالشرح من طرف العلماء)، لأنه بعد ابن زغدان نجد عالما هو الخروبي الطرابلسي الذي ألمعنا إليه آنفا، وأما في المغرب فكان أول تعرف على التصلية المشيشية في بداية القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي، فهل هذا مرده إلى أبي الحسن الشاذلي تلميذ ابن مشيش الذي عرّف بشيخه في تونس ثم بمصر بعد ذلك، وبقيت التصلية المشيشية غير معروفة في المغرب حتى بداية القرن العاشر الهجري. لا مجال للبث في هذا الأمر إلا بعد ظهور دراسات جديدة في الميدان»(35). فهنا توقفٌ عن إصدار الحكم وانتظارٌ لظهور دراسات جديدة في الموضوع كما يليق بكل باحث يحترم نفسه وقراءه، فلا يتسرع في إطلاق أحكام لم تقم على صحتها أدلة كافية.
– رابعا: يبحث في دواعي تأليف بعض النصوص التي كتبها المتصوفة ولا يكتفي بذكر عناوينها. وذاك ما يجده القراء عند حديثه عن “حزب النصر” لأبي الحسن الشاذلي ومنه قوله “اللهم أهلك أعدائي وحسادي ومن أراد هلاكي ومضرتي كما أهلكت قوم نوح وقوم لوط…”، فقد علّل ذ. العشاب كتابة هذا الحزب قائلا: «يبدو أن حزب النصر هذا هو من تأثير ما وقع للشيخ أبي الحسن بتونس وإبلاغ حسَدته السوء به إلى أولياء الأمور بمصر»(36).
– خامسا: ينتقد نسبة نصوص إلى بعض أعلام التصوف. وأقصد هنا انتقاده نسبة “حزب الدائرة” للشيخ أبي الحسن الشاذلي، يقول: «وللشاذلي [ولعله مما نُسب له] حزب يسمى حزب الدائرة، وهو مبني على خاتم الشاذلي المروي من طريقين: طريق أبي العباس المرسي وطريق شهاب الدين ابن الشيخ أبي الحسن. ولهذا الخاتم خواص [تدخل في باب الخرافات] وشكل الخاتم دائري بها أسماء عربية وأعجمية لها خواصها وأسرارها، والأسماء التي فيها ليست بلسان عوالم الملك والملكوت، ولا بلغة من لغات العالمين، وإنما هي لغة جبروتية يذكر الله بها في روض من رياض جبروته، وأنه قد جمع فيها علم الأولين والآخرين. وكتابة هذه الأسماء في شقف والدهن بمائها يشفي من أمراض جلدية كثيرة. فهذا الحزب ليس من نفَس أبي الحسن»(37).
فقد ردَّ نسبة هذا الحزب المذكور في مخطوط “في ذكر خاتم الإمام الشاذلي”، وأبطل نسبته إليه استنادا إلى أن ما به من حديث إنما هو خرافات كان الإمام الشاذلي من أبعد الناس عنها وأكثرهم تعلقا بالكتاب والسنة.
– سادسا: يقارن بين نصوص بعض المتصوفة باحثا عن المشترك بينها، وذلك كالذي يجده القراء في حديثه عن تائيتي محمد بن عبد الكبير الكتاني ومحمد البوزيدي واشتراكهما في معنى الاستغراق في محبة الله(38) ، فقد أبرز ذ.العشاب ذلك ونبّه على أن هذا المعنى «هو نفسه الذي أرّق العابدة الزاهدة رابعة العدوية حين قالت:
راحتي يا إخوتي في خلـوتي وحبيبي دائما في حضرتي
لم أجد لي عن هواها عوضا وهواه في البرايا محنتي
حيـثـما كـنت أشـاهد حسـنه فهو محرابي إلى قبلتي
وهو نفس المعنى الذي عناه الفقيه الزاهد سيدي الأمين الروسي الحسني شيخ الطريقة الدرقاوية بالقصر الكبير»(39) في بعض تضرعاته.
– سابعا: لا ينتصر المؤلف للنصوص الأدبية لمتصوفة المغرب انتصارا أعمى، ولكنه ينظر إليها بعين المحكتم إلى معايير الجنس الأدبي الذي تندرج ضمنه، فليس كون النص لمتصوف مغربي مسوغا لعده نصا جيدا محكما، ولكن العبرة بتمثل النص لشروط الجودة الفنية. لذلك ألفينا الرجل يشيد بقصائد لبعض المتصوفة، كما يصف أشعار بعضهم بالتكلف، كقوله في ترجمة ابن زغدان: «أورد له [محمد بن عبد الرحمن السخاوي] من بقية من تكلموا عنه أربعة أبيات من شعره وهو شعر متكلف كما سنرى..»(40).
وهذه النظرة الموضوعية للمؤلف كانت موجِّهة له في غير هذا الموضع من كتابه، عاصِمة إياه من التعميم في الحكم، وذلك كقوله مميزا بين الزوايا وأدوارها: «إن آفة الطرق مريدوها الجهلاء، فعندما يسيطر هؤلاء تنحرف الطريقة عن اتجاهها الصحيح، وهذه آفة تسربت إلى أتباع كل المناهج الصوفية، وهو الأمر الذي أدى تاريخيا إلى محاربة بعض الطرق الصوفية وأتباعها عندما استغلها الاستعمار لتنفيذ مخططاته في الشعوب المغلوبة على أمرها. ولكن لا ننسى مع ذلك أن بعض الطرق كان لها الفضل في قيادة حركة التحرير ومحاربة الدخلاء في المشرق والمغرب»(41).
فلا تعميم في الحكم ولا تحيز بدافع الانتصار للبلد ورجاله حقا وباطلا، وإنما التزامٌ بقول الحق سبحانه: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) [الأنعام/ 153] وقوله عز وجل: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى) [المائدة/ 09].
تلكم نظراتٌ في هذا الكتاب المفيد للأستاذ الجليل سيدي عبد الصمد العشاب رحمه الله تعالى، تكشف أن الرجل كان منشغلا ببيان المفهوم الحقيقي للتصوف وتخليصه مما علق به، ساعيا لإبراز الجانب العمَلي والبعد الإصلاحي في حياة أعلام التصوف بالمغرب، راغبا في كشف تميز الإنتاج الأدبي والعلمي لمتصوفة المغرب وصلحائه؛ وفي ذلك كله ما يُظهر ملامحَ من “النبوغ الصوفي المغربي في العالم الإسلامي”.
الإحالات:
(1) صدر عن مطبعة سليكي أخوين، طنجة، ط01، 2018م.
(2) أنوار صوفية وإشراقات ربانية لعلماء وصلحاء المغرب، لعبد الصمد العشاب، ص09.
(3) نفسه، ص42. (4) نفسه، ص84 باختصار.
(5) نفسه، ص90. (6) نفسه، ص89.
(7) نفسه، ص96. (8) نفسه، ص111- 113.
(9) نفسه، ص47- 58. (10) نفسه، ص76.
(11) نفسه، ص30. (12) نفسه، ص84.
(13) نفسه، ص84- 85. (14) نفسه، ص85.
(15) نفسه، ص92- 93. (16) نفسه، ص11- 12.
(17) نفسه، ص20. (18) نفسه، ص25.
(19) نفسه، ص44. (20) نفسه، ص69.
(21) نفسه، ص87. (22) نفسه، ص94.
(23) نفسه، ص09. (24) نفسه، ص16.
(25) نفسه، ص16. (26) نفسه، ص30- 31 باختصار.
(27) نفسه، ص31. (28) نفسه، ص43.
(29) نفسه، ص67. (30) نفسه، ص73.
(31) نفسه، ص92 وص103. (32) نفسه، ص47- 48.
(33) نفسه، ص65. (34) نفسه، ص67.
(35) نفسه، ص59- 61. (36) نفسه، ص103.
(37) نفسه، ص104- 105. (38) نفسه، ص35.
(39) نفسه، ص35. (40) نفسه66.
(41) نفسه، ص106.