لاشيء يمنعني من النظر إلى كتاب ” مكاشفات في الأدب والفن والإعلام” للإعلامية أسماء التمالح، باعتباره الحكاية الغيرية للحكاية الواقعية لمدينة القصر الكبير، مستحضرا ضمن هذا الرأي كل ما تنطوي عليه وضعية الذات والغير من تطابقات وانفصالات لامتناهية.
فالكاتبة أسماء التمالح، ومن خلال محاوراتها لمجموعة من الكتاب والشعراء والمبدعين القصريين، فهي إنما تعمل على ولوج ذلك الجزء من المكان الواقعي للمدينة، بعد مروره في منطقة التخييل الشعري أو الروائي أو القصصي، ليعود وينبثق في محافل القراءة الفردية والجماعية، وقد اكتسب أبعادا جديدة لاتخصه وحده كمكان فيزيقي جامد، بل كمكان يعج بالخصائص النفسية والعقلية والاقتصادية والسياسية والدينية، المميزة لوضع حياتي محدد، في مكان وزمان محددين، ويتعلق الأمر هنا بمدينة القصر الكبير في النصف الأخير من القرن المنصرم، وفي بداية القرن الواحد والعشرين .
تبرز الحوارات المتعددة مع المشتغلين في الشعر والسرد، أن المدينة ليست أيقونة ثابتة ومكتملة التشكل، فهي بقدر ما تخضع لحركة التاريخ، التي تطال الشخوص والمباني وأساليب العيش والحلم، فإنها كذلك تتحرك على مسار الحياة، كأي كائن حي، ولذلك فهي تظهر متطابقة مع صورتها الأخرى، مع غيريتها المكتوية شعرا أو سردا، المتعالية على المدينة الواقعية بما يحقق حلم الكتابة بمدينة أروع وأسمى، أو على عكس ذلك، المتقهقرة أسفل الدرك الحقيقي لمدينة القصر الكبير، بما يحقق كابوس الكتابة وخوفها على المدينة من احتمال الانحدار والتدحرج إلى الأسفل.
عند هذا المستوى، تسائل أسماء كتابا كبارا أمثال: محمد أنقار، ومصطفى يعلى، ومحمد احميدة … تستمع إلى هذا الصوت الشبيه بطنين الصدى، لأنه في نفس الوقت واقعي وليس واقعي، صوت الرؤية التي تحملها الكتابة عن الأشخاص والمدن والأوطان، دافعة الواقع في اتجاه تدفق إمكاناته لفتح آفاقه الممكنة، الآفاق التي أخرجت باريس الأنوار من باريس الظلام، وأخرجت مكة الإسلام من مكة الكفر، وأخرجت أمريكا المساواة من أمريكا العبودية، حيث تتطابق الثنائيات وتتباعد في نفس الوقت، لأنها لا تستطيع العيش في كتف حد أو طرف واحد، خوفا من السقوط في خطر القبول بنمطية الواقع، وفقدان تلك الحرية الحالمة التي يحققها الخيال، والتي لولاها لما خرج عالم التكنولوجيا من رحم عالم العصور الحجرية .
وبايجاز، وكما قلت في البداية، لاشيء يمنعني من النظر إلى كتاب ” مكاشفات في الأدب والفن والإعلام” ، باعتباره بوثقة أولى تتناسل فيها الرؤى حول الواقع والخيال، حول تطابق مدينة القصر الكبير وانفصالها كذلك عن صورتها الأخرى القائمة في النصوص التي شكلت مواضيع النقاش في الكتاب، إنها خطوة تنضح بالتحدي والثقة في دور التخييل في ولادة مدينة، ووطن وعالم جديد من بطن عوالم حقيقية قد يجرفها الزمن ويلقي بها في ثنايا الذاكرة .