شهدت الساحة التعليمية المغربية في السنوات الأخيرة، ارتفاعا مهولا في معدل الاعتداءات على نساء ورجال التعليم من قبل تلاميذهم، سواء داخل أسوار المؤسسات التعليمية أوخارجها، مما خلف استياء كبيرا في صفوف الأسرة التعليمية، واستنكارا من لدن باقي فئات المجتمع.
ليس من المعهود أن تتناسل الأحداث الدامية بالفضاءات التعليمية بهذا الشكل المخيف، فمستوى التربية الأسرية للأبناء عرف تراجعا كبيرا، ومهمة مراقبة سلوكاتهم وتوجيههم ومحاولة إرشادهم من طرف الآباء صارت نوعا ما متجاوزة، حيث ترك الأبناء للشارع يتولى تحديد مصيرهم، مما سهل على الكثير منهم ولوج عالم التدخين والمخدرات في سن جد مبكر، كنوع من سد الفراغ الروحي الذي يعانون منه، وكردة فعل تثبت حضورهم ورجولتهم المزيفة داخل الوسط الإجتماعي، ففقدوا بذلك مقومات الإنسان السوي التي يعتمد عليه في المستقبل.
سابقا ، كانت علاقة الأستاذ بالتلميذ تحكمها قيم الإحترام والتقدير، وكان الصغير ( التلميذ) يوقر الكبير ( الأستاذ)، ولا يجرؤ بأي حال من الأحوال على التطاول عليه بلسانه حتى، لأنه – التلميذ – يدرك جيدا جسامة العقاب الذي ينتظره، خصوصا عند تدخل الأسرة وهي تقف على فحوى المشكلة بعدما بلغت إلى علمها.
لقد كانت الأسرة جنبا إلى جنب مع المدرسة والأستاذ من أجل تنشئة وتربية وتهذيب ابنها، من منطلق أن هذا الأخير لايمكن أن يقوم بما لايخدم مصلحة التلميذ، وفي حال تفاقم المشكل، كانت الأسرة تحتوي ابنها، تهدىء من روعه، وتعود به إلى جادة الصواب وهي تذكره بأن الأستاذ هو جزء مكمل لهم، يمثلهم في غيابهم، ولايجوز مطلقا الإساءة إليه بأي شكل من الأشكال، وإن حصل فإنه يكون قد تجاوز حدود اللياقة الأدبية، وتمرد على قواعد وأصول التربية الحسنة وأذاهم، وهو ما لايرضون لأنفسهم بعد عناء طويل في التربية والتخليق.
كان التلميذ يستوعب كلام أسرته، ويفهم دلالاته العميقة، يتفاعل ايجابيا مع ما يقدم إليه من دروس وتنبيهات، يخجل من نفسه إن كان فعلا مذنبا، ويعد أبويه أنه لن يكرر فعلته مجددا، فتكون أول خطوة منه للعدول عن تهوره وسوء تقديره لأستاذه، هو تقديم الإعتذار وطلب المسامحة، فتعود المياه إلى مجاريها، بعودة التلميذ إلى وضعه الطبيعي المؤسس على وجوب احترامه لمدرسه.
في الوقت الراهن، صارت العلاقة بين الأستاذ والتلميذ تعرف توترا كبيرا، وبدل أن يكون القسم وما جاوره، قاعة للدرس وفضاء لطلب العلم والمعرفة، تحول كل ذلك إلى ميادين للمصارعة والملاكمة، وعوض أن يتم التبجيل للأستاذ كما هي العادة، ابتعد التلميذ عن هذه الحقيقة، وكسر كل الحواجز، وتمرد على مجمل المبادىء التربوية والقيم النبيلة، فبات ينظر لمدرسه نظرة استخفاف واستهانة، لايفرق بينه وبين دمية ” كراكيز” ، يراها حسب منظوره الخاص تتراقص أمام أعينه إلى جانب السبورة، إذ من السهل العبث بها في كل وقت وحين، سيما إذا حاول المدرس تقويم سلوك هذا التلميذ المخطىء في اعتقاده وتصوره، فيكون العنف سيد الموقف، ونزيف الدم هو النهاية التي تعزز المواجهة وتؤجج الاصطدام فيتجه به نحو مسارات أخرى غير محمودة.
– هل الأستاذ دائما على صواب والتلميذ دائما سيئ ومذنب ؟؟
بطبيعة الحال لا، فبعض الأساتذة مع كامل الأسف، لايحترمون مهنتهم، ولايحترمون أنفسهم، ودورهم الريادي في تربية وتهذيب النشء دونما استفزاز أو تجاوز لحدود المسؤولية الملقاة على عاتقهم، نذكر منهم أولئك الذين يصدرون ألقابا على التلاميذ، فينادونهم بها أمام زملائهم، سخرية واحتقارا واستصغارا، إذ غالبا ما تستنبط هذه الألقاب من شكلهم الخارجي وصورتهم التي خلقهم الله عليها، كأن ينادى على القصير القامة ب ” القزم ” مثلا، بدل لقبه وكنيته الأصلية، أو ب ” القبيح ” لدميم الخلقة، أو بالأعرج والأعور لمن يشكو من عاهة أو إعاقة جسدية .. الشيء الذي يولد حقدا دفينا بداخل التميذ اتجاه أستاذه، فيجبر على كره المادة والأستاذ معا، لأنه يشعر بالمهانة والقهر، ولا يرضى أبدا بالانتقاص منه أمام رفاقه بالفصل .
كذلك الشأن حينما يخطىء الأستاذ فيصحح له التلميذ، ويكون هذا الأخير على حق، فبعض الأساتذة – هداهم الله – لايقبلون بالوضع، ويعتبرون أنفسهم منزهين عن الخطأ، وبدل الإعتذار والنزوح إلى الصواب حتى وقد جاء على لسان تلميذهم، فإنهم يلجأون إلى أسلوب التعنيف، تعنيف التلميذ وعقابه، إما بالنيل منه عن طريق السخرية، أو بطرده من الفصل الدراسي، أو بالتجاهل فيما بعد، إن لم يمتد الأمر إلى الانتقام منه عبر الانتقاص من النقط التي يحصلها، كل هذا إرضاء لأنانية الأستاذ وعدم تقبله الوقوع في الخطأ، رغم أن الأمر عادي جدا، ووارد في أفضل المؤسسات، ومع أنجح المدرسين.
احتواء التلميذ أمر إلزامي :
لكل أستاذ طريقته في التعامل، لكل واحد منهجيته الخاصة التي ينهجها في التخاطب والتحاور مع تلاميذه، ويبقى أنجح الأساتذة وأمهرهم وأكفِؤهم وأعزهم على قلوب المتمدرسين، الذين يقدرون قيمة الاحتواء ، أولئك الذين يسعون إلى احتضان التلميذ ودعمه في الإطار التربوي المعقلن، الذي يحفظ للأستاذ هيبته ومكانته وكرامته، وفي ذات الوقت يشعر التلميذ بقيمته ويحفزه على الجد والعمل، والإقبال على دراسته بحب ورغبة وحماس، عوض الإعراض عنها والانشغال بالشغب والفوضى وقلة الأدب.
يسجل التاريخ لهذا الصنف من الأساتذة، إنتاج جيل نافع مسؤول معول عليه مستقبلا، جيل يعرف ماله وماعليه، يستحضر القيم النبيلة ولايقبل على نفسه الذل والهوان، أوالإشارة إليه بأصبع الاتهام تحت طائلة أي سلوك مشين لم يرب عليه أبدا.
إن احتواء التلميذ واحتضانه ودعمه وفق المسموح والمشروع، يعزز بداخله قيمة الأستاذ الإعتبارية، ويقوي عاطفته النبيلة اتجاهه، فإن حصل مكروه للأستاذ كان تلاميذه أول المواسين، وفي مقدمة المتأسفين والحزانى، وإن مرض أو اعتلت صحته، سارعوا فرادى وجماعات إلى منزله لعيادته، وإن حقق مكسبا أو نجاحا أو عاش مناسبة سعيدة كانوا من أوائل المهنئين، المتمنين له دوام الازدهار والتفوق، والعكس صحيح في حال مخالفة هذه القاعدة.
لعل أهمية احتواء التلميذ تتجلى بقوة في تعلق الأخير بأستاذ ونفوره من غيره، فالأستاذ الذي يكون قريبا منه، ويفهم لغته وتركيبته النفسية، ويتدخل بمد يد العون له والمساعدة عند الحاجة، يستحيل أن يواجه مشكلا معه، اللهم إذا قدر شيء وكتب من الله عز وجل.
أما الأستاذ الذي يعامل تلامذته بتعال وغرور زائد وعجرفة، يحتقر هذا وينتقم من ذاك لأتفه الأسباب، ويسميه بتسميات وضيعة بين زملائه، فيكون أكثر عرضة للمشاكل مع التلاميذ، وأكثر إزعاجا للإدارة التربوية، وأكثر دخولا في مواجهات عنيفة دامية مع التلاميذ، وهو ما لايشرف قطاع التربية والتعليم برمته.
لقد انحدر التعليم في بلادنا في السنوات الأخيرة منحدرا خطيرا، وشكل العنف المدرسي أبرز سماته، مما يجعل أجراس الخطر تدق، منبهة من أن تتحول مؤسساتنا التربوية من مؤسسات تعليمية تنتج فاعلين ناجحين في الحياة، إلى مؤسسات أخرى لا علاقة لها بالتربية والتعليم، تنتج بارعين في الإجرام وصنوف الجريمة.
التعليم في بلادنا يحتضر ، فإلى أين الطريق به ؟ أما حان الوقت بالمسؤولين لإعادة هيكلته وبنائه من جديد وفق ما يخدم القطاع التربوي والصالح العام على حد سواء ؟