1 ـ لماذا تشتغل على الحكاية الشعبية ؟
إن الأمر يتعلق بحافزين اثنين الأول ذاتي ، والثاني موضوعي . فبالنسبة للحافز الأول ، قد جمعت علاقتي بالحكاية الشعبية بين التعاطف التلقائي مع التراث القصصي الشعبي من حيث التلقي والتأثر منذ سنوات الطفولة الأولى ، وبين محاولة الاستفادة منه بتوظيفه إبداعيا في قصصي القصيرة ، كما يبدو في كثير من قصص مجموعتي الثانية ( دائرة الكسوف ) ومجموعتي الثالثة ( لحظة الصفر ) .
ويمكن الإشارة أيضا في هذا الإطار ، إلى أن الاشتغال على الحكاية الشعبية المغربية ، هو استمرار لميل طبيعي إلى دراسة السرد المغربي تحديدا ، فقد كانت الخطوة الأولى عند بحثي ( ظاهرة المحلية في الفن القصصي بالمغرب ـ من أوائل الأربعينات إلى نهاية الستينات ) ، وتمثلت الخطوة الثانية في إنجاز عدد من البيبليوغرافيات الخاصة بالأنواع السردية في المغرب ، والآن الخطوة الثالثة انحصرت في الاهتمام بدراسة القصص الشعبي في المغرب .
أما بالنسبة للحافز الموضوعي ، فيمكنني أن أستدعي للتعليل ظاهرة فقر الدراسة الأكاديمية في هذا الشأن . إذ ليس هناك على مستوى الدراسات الجامعية العليا المنجزة باللغة العربية ، سوى بضع رسائل وأطاريح جد محدودة ، وأكثرها عبارة عن مونوغرافيات ارتبطت بمدينة مراكش حصرا .
وبذلك ظل التراث القصصي الشعبي بالمناطق الأخرى ، وما أكثره ، ينتظر من يستكشفه ويبحثه . لا سيما وأن عملية جمع النصوص القصصية الشعبية المغربية بمختلف اللغات ( العربية ، الأمازيغية ، الفرنسية ، الإسبانية ، الإنجليزية ) ، قد سمحت بتراكم رصيد غزير من المجموعات المتنوعة من هذا القصص ، مما وفر المادة الخام الضرورية لتهيئة الأرضية المطلوبة من أجل تأسيس حركة علمية متخصصة في الأدب الشعبي ومنه الحكاية ، من شأنها سد الثغرة الهائلة الملاحظة في حقل الدراسات الأدبية الشعبية بمكتبتنا المغربية والعربية .
إن كل هذا يؤكد ضرورة بحث هذه الحصيلة الثرية من القصص الشعبي المغربي بحثا عميقا دقيقا من مختلف المناهج والمنظورات ، من شأنه أن يؤدي إلى نتائج مهمة من حيث حفظه وتوظيفه في شتى المجالات .
2 ـ الحكاية الشعبية فن إنساني يحمل تراث المجتمعات الإنسانية من جيل إلى آخر ، ماذا تحمل الحكاية في المغرب ؟ .
قياسا على القولة التمجيدية المأثورة ( الشعر ديوان العرب ) ، يمكن القول كذلك إن الحكاية الشعبية كانت دائما ديوان المجتمعات الشعبية ، أي أنها تعتبر مجمع حكمة الشعوب وحضارتها ومثلها وقيمها الأصيلة ، ومجلى خصائص شخصيتها ، ومستودع معتقداتها وتفكيرها ، ومسرح فنها وإبداعها . وعلى هذا ، فإن الحكاية الشعبية ليست كما كان يصفها خصومها ، مجرد خرافات عجائز وعبث هدفه التسلية وتجزية الوقت ولا ثرثرة عشوائية . وبالإضافة إلى كل ذلك ، فإن الحكاية الشعبية بأنواعها المختلفة كانت دائما في المتخيل الشعبي عبارة عن ورشة توريث التجارب والخبرات للأجيال المتلاحقة .
وفي المغرب لم تشذ الحكاية الشعبية عن هذه الوظائف الغنية المتعددة . فقد ولع المغاربة دوما بالقصص الشعبي على وجه التخصيص ولعا كبيرا ، وتوارثوا روايته بكثير من الاحتفاء والعناية . فإلى وقت قريب كان هذا القصص يقوم في المغرب بدور تربوي وفني ونفسي بالغ الأهمية في جل الأوساط المغربية ، وذلك قبل اتساع انتشار وسائل التحديث وفي مقدمتها وسائط الإعلام المسموعة والمرئية . وقد لوحظ نتيجة لهذا الولع مدى ثراء وتنوع التراث القصصي الشعبي في المغرب ، إلى درجة أنه يكاد يكون لكل منطقة قصصها الشعبي الذي يعبر عنها وتعرف به ، علما بأنه لا يقطع الحبل السري مع التراث الشعبي الوطني والقومي بل والإنساني بكيفية أو أخرى .
3 ـ للحكاية الشعبية خصائص تميزها عن باقي المأثورات الأخرى وخاصة أنها تنتقل عن طريق المشافهة . ألا يشكل ذلك مصدر متاعب للباحث في هذا الميدان ؟ .
إن ثراء القصص الشعبي بأنواعه المختلفة ( حكاية شعبية ، حكاية عجيبة ، حكاية خرافية ، حكاية مرحة ) بالمميزات النوعية والخصائص الجمالية المدهشة ، إن على مستوى الأبطال والأحداث والزمكان والخيال والتجسيد والتجريد والسرد والحوار والأساليب والمفارقات والرموز والدلالات والوظائف ، وإن على مستوى الأصناف والأبنية والأشكال والملابسات الحافة بها ، أمر متفق عليه من قبل الباحثين والدارسين لهذا التراث .
ومن ذلك ما أثرته في سؤالك هذا عن تداول القصص الشعبي عن طريق المشافهة ، وطبعا باللغة العامية . إن هذه الخاصية هي التي تمنح هذا القصص هويته الشعبية . إذ لو أنه كان يدون ويكتب بلغة عربية فصيحة ، لفقد الكثير من شعبيته . غير أن هذا يحدث كما جاء في السؤال كثيرا من الصعوبات للباحث في هذا الحقل . ذلك أن الرواية الشفاهية للقصص الشعبي تسببت عبر العصور في إحداث التغييرات المتوالية في نصوصه ، فضلا عن كونها سهلت انتقاله بين الشعوب ، الأمر الذي يربك عمل الباحث ، حيث يصعب عليه تحقيق وتحقيب ونسبة النصوص القصصية الشعبية . ولتدرك مدى فداحة هذه الظاهرة على عمل الباحث المتخصص ، يكفي أن أذكر لك أن عدد روايات ( عايشة رمادة أو وعاء الرمادCendrillon ) قد بلغت ثلاثمائة وخمس وأربعين رواية حسب ( ماريان كوكس ) .
4 ـ ما هي العراقيل التي اعترضت طريقك وأنت تشتغل في هذا الميدان ؟ .
كما يحدث في كل مجال بكر ، واجهتني منذ البداية ندرة المصادر والمراجع . مما أخذ من وقتي زمنا طويلا في البحث عنها واستقصائها من مظانها ، سواء تعلق الأمر بالنصوص أو الدراسات والأبحاث . لا سيما فيما يتعلق بجمع بعضها من أفواه رواة الحكايات في أنحاء مختلفة من الوطن ، وترجمة بعضها الآخر عن الأمازيغية والفرنسية والإسبانية، بالاستعانة ببعض الزملاء والأصدقاء والأقارب . علما بأن المحاولات المجربة سابقا من طرف بعض المهتمين بالأدب الشعبي في المغرب ، انصرفت إلى بحث أجناس أدبية شعبية أخرى من غير الحكاية ، وفي مقدمتها الملحون والأمثال ، ربما لعلاقتهما بالتراث الرسمي . أي أنني لم أجد أمامي تراكما مهما يمكنني الاستفادة منه في هذا الشأن .
5 ـ ألا ترى أن وسائط الإعلام الحديثة أثرت بشكل أو بآخر في عملية تداول الفن الشعبي ومنه الحكاية ؟ .
من الواضح أن القصص الشعبي في المغرب ، قد أخذ يتراجع أمام ظروف التحديث الجارفة ، كما سبقت الإشارة ، حيث تبدد المناخ الملائم لتداول هذا القصص داخل الأسر المغربية وخارجها كما كان عليه الوضع قبلا ، حيث لم يعد يجد طريقه إلى الشعب عامة والأطفال خاصة إلا في أضيق الحدود ، الأمر الذي يهدد تراثا حكائيا شعبيا كاملا بالضياع والاندثار. فقد لابست حياة المغاربة خلال الخمسين سنة الماضية متغيرات كثيرة ساعدت على إحداث مظاهر اجتماعية متعددة مختلفة عن ذي قبل .
كما أن وسائط الإعلام الحديثة استطاعت منذ زحف السينما إلى استفحال الإنترنيت ، أن تسحب بوسائلها الخارقة اهتمام الأجيال الشابة من معظم وسائل التثقيف والاستمتاع التقليدية ، حتى ما يندرج في الفن والأدب الرسميين ، فبالأحرى الأدب الشعبي وقصصه . خصوصا وأن البحث الجامعي في المغرب ، مثلما هو الأمر في معظم الأقطار العربية ، لم يهتم بجمعه ودراسته وترويجه بكيفية جدية .
6 ـ أية علاقة تحتمل لوسائل الإعلام بالفن الشعبي ؟ .
هذا السؤال يمكن اعتباره سؤال المرحلة بالنسبة للأدب الشعبي ، ومنه القصص الشعبي . ذلك أن محاولة استعادة مكانة ووظيفة هذا الأدب حاليا إلى ما كان عليه الأمر في الماضي ، أمر لا يقبله منطق التطور . وما يمكن القيام به ، هو استغلال وسائط الإعلام ذاتها لخدمة الأدب الشعبي . فعبر التشخيص الإذاعي والأفلام السينمائية وأشرطة الفيديو والأقراص المدمجة وما إلى ذلك ، يمكن المحافظة على أداء الخطاب الأدبي الشعبي ، ممثلا في القصص والأمثال والأزجال الشعبية وغيرها ، لوظائفه المختلفة . ولنا فيما فعله والت ديزني بأشهر الحكايات الشعبية سينمائيا خير مثال .
7 ـ ماذا يستفيد الأدب عموما والفن خصوصا من الحكاية الشعبية ؟ .
إن العلاقة بين الأدب الشعبي ، وفي مقدمته القصص الشعبي ، بالأدب الرسمي ، كانت دائما علاقة وطيدة ، وتتجلى أقرب مظاهرها في كون الأول كثيرا ما شكل رافدا ثرا للثاني ، والأمثلة كثيرة ومعروفة عن الأجناس الأدبية المختلفة من شعر وقصة ومسرح ، التي اتخذت من الأدب الشعبي عامة والقصص الشعبي خاصة ، مصدر إلهام وإخصاب للتمكن من تبليغ رسائلها إلى المتلقي وإحداث تأثيراتها المستهدفة ، وذلك بفضل ما يملكه هذا الأدب من أبعاد رمزية غنية وأشكال فنية شيقة .
كما أن الفن التشكيلي لا يتمكن من توفير أصالته وابتعاده عن استعارة الأشكال الإبداعية الأجنبية بصورة محاكاتية ، إلا إذا التفت إلى محيطه ينهل منه موضوعاته ويستلهم أشكاله من فنونه الشعبية وغير الشعبية ، مع الاستفادة من تجارب الآخرين طبعا ، وفي مقدمة هذه المستلهمات التوجه نحو القصص الشعبي المحلي بالاستفادة من إمكاناته الخيالية وتشخيص رموزه الدالة .
وما يثير الانتباه في هذا الصدد كون بداية الفن التشكيلي المغربي حاولت الانطلاق من واقعها المحلي بثقافاته الشعبية المتنوعة ، مثلما نجد عند أحمد الرباطي وبن علال والإدريسي ، لكنها سرعان ما مالت بعد الاستقلال خاصة إلى ركوب الاتجاهات التجريدية الغربية مع أمثال المليحي وشبعة والقاسمي .
وقل مثل هذا في المسرح والسينما أيضا . وإذا كان الأدب والفن الغربيان قد استفادا بقدر أو بآخر من الرموز الأسطورية اللاتينية ، وتبعهم في ذلك كثير من المبدعين العرب في أدبنا الحديث والمعاصر ، فإنه جاء الوقت ليغتني أدبنا وفننا الرسميان المعاصران ببلاغة الأدب الشعبي المدهشة وبرموزه العميقة الدالة . خاصة وأن مد العولمة فاغر فاه الآن من أجل التهام كل الخصوصيات المميزة للشعوب بعضها عن بعض .
8 ـ هل هناك اهتمام داخل الأوساط الثقافية بالفن الحكائي الشعبي ؟ .
الحق إن الوعي بضرورة الحفاظ على تراثنا الشعبي بما فيه قصصنا الشعبي ، بجمعه ودراسته وتصنيفه ، لم يغب عن كثير من الأساتذة الباحثين بالمغرب ، إذ كثيرا ما نادوا في عدد من المناسبات بأهمية إنجاز هذه المهمة العلمية على اعتبار هذا التراث من مكونات الهوية الوطنية . وفي هذا الصدد ، يمكن الاستشهاد بما حاوله محمد الفاسي مبكرا ، إذ دون باللغة الفرنسية مجموعتين حكائيتين في عشرينات القرن المنصرم ، الأولى تحت عنوان ( حكايات فاسية Contes Fasis ) ، والثانية بعنوان ( حكايات فاسية جديدة Nouveaux contes fasis ) ، كما انطلق منذ بداية الستينات في الكتابة عن فن الملحون حتى قبيل وفاته ، ونشر أيضا ( العروبيات ) .
ومثله اهتم عباس الجراري بالملحون في أطروحته ( الزجل في المغرب : القصيدة ) ، إلا أنه تميز خلال الستينات بالكتابة التعريفية عن جميع أجناس الأدب الشعبي وفي مقدمتها القصص الشعبي ، وهو ما كون مادة كتابه ( من وحي التراث ) . وقد أنجزت في الجامعة المغربية بضع رسائل وأطاريح عن الزجل ، والقصص الشعبي ، والأمثال الشعبية ، إلا أن كل هذا وغيره ، لا يكون ظاهرة بارزة في حركتنا الأدبية والبحثية، وإنما يمكن اعتباره بداية تأصيلية لاتجاه أدبي يعيد الاعتبار لأدب الشعب وفنه .
ومما يشجع على التنبؤ بمستقبل الدراسة الأدبية في حقل الأدب الشعبي عامة والقصص الشعبي خاصة ، تأسيس عدد من مجموعات البحث أو وحدات البحث والتكوين في هذا الأدب بكل من كلية الآداب بأكادير والدار البيضاء والمحمدية والقنيطرة . نقول هذا من غير أن ننسى ما تقوم به بعض الجمعيات الثقافية من تنظيم لندوات تناقش خلالها مختلف قضايا هذا الأدب وإشكالاته ، وكذلك ما ينشر بين الحين والحين من ملفات خاصة به في بعض المجلات الوطنية ، آخرها العدد الأخير الضخم المزدوج 64/65 من مجلة (المناهل) ، المخصص لمحور ( الأدب الشعبي المغربي ) .
9 ـ المسرح أقرب الأجناس الأدبية إلى الحكاية، كيف علاقة التأثير والتأثر بينهما؟.
معروف أن المسرح الكلاسيكي اتكأ على عديد من الأساطير اليونانية والرومانية ، ومعلوم أيضا أن كثيرا من النصوص القصصية الشعبية قامت على الخرافات المتناسلة عن الأساطير القديمة . ومن هنا تكون علاقة المسرح بالحكاية التي أثرتها في سؤالك واردة ومؤكدة ، سيما وأن بين المسرح والقصص الشعبي على مستوى الصراع الدرامي أكثر من وشيجة . وما قيل سابقا عن علاقة الرسم بالأدب الشعبي والقصص الشعبي أساسا ، يمكن تكراره هنا بالنسبة للمسرح . فهو أيضا اضطرب عندنا بين احتذاء المدارس الغربية والاستفادة من التراث الشعبي والرسمي معا ، كما هو واضح في المسيرة المسرحية لكل من الطيبين الصديقي والعلج .
على أن الاستفادة في مرحلتنا هذه ، نظرا لكثير من المتغيرات ، تتجه من القصص الشعبي إلى المسرح ، وليس العكس . فقد فات الأوان بالنسبة لمحاولة المد في عمر القصص الشعبي بطقوسه القديمة ، وتحول الآن إلى مادة خام تدخل عضويا في المكونات البنائية على المستوى الجمالي بالنسبة للمسرح وغير المسرح . فالمطلوب ليس هو إعادة إنتاج الحكاية الشعبية سرديا ومسرحيا وتشكيليا وما إلى ذلك ، بل تحيينها باستخدام بعض أدواتها واستثمار رموزها ، من أجل التعبير جماليا عن الواقع والوجود .
*نشر في صفحة ثقافة وإعلام
بجريد (الجمهور) ع.8 ، س. 1 ، الجمعة 25 ذو القعدة ـ 8 فبراير 2002 ، ص. 6 .