في مدخل المدشر قدّرَ الله أن نلقى السيد محمدا كرمون راكبا سيارته، هو أول من لقيناه، واحدٌ من أعز أصدقاء مصطفى، وعنه حدثني بإعجاب كبير في طريقنا إلى “الحصن” ..لكأنَّ الحديثَ عنه كانَ دعوةً له للقاء وليكون أول المرحبين بنا! قدّرَ الله، وما شاء فعَل!
أوقف مصطفى السيارة أمام “مسجد اشْقاقْرَة”، وقال لي:
– سنذهب إلى “مسجد حَمْدانيشْ”.
قلت:
– على بركة الله.
ومشينا بين أشجار كثيرة ومنازل قليلة قديمة أصيلة نحو المسجد المذكور. “اشقاقرة”..”حمدانيش”..أسماءٌ أسمع بها أول مرة وأماكنُ لم أرها من قبل. لعل “اشقاقرة” جمعُ “شَقّور”، ولكن ما معنى “حمدانيش”؟
كففتُ عن التفكير في دلالات الأسماء عندما سلم علينا رجلٌ نحيلٌ مُلتَحٍ ونحن على مقربة من “مسجد حمدانيش”. رددنا التحية، وعَلِمَ الرجلُ بحَدسِه وجْهَتَنا، فرافقَنا، ودخلنا جميعا من أحد أبواب المسجد. قصدنا مبنى صغيرا بجوار المسجد، وفوجئتُ وأنا أقف أمام غرفة كُتب فوق بابها “بيت مولاي عبد السلام بن مشيش”.
قال الرجل الملتحي وهو يسبقنا إلى الداخل:
– تفضلوا، مرحبا بكم.
ودخلنا وفي أعماقي شعور لم أجد بين الألفاظ ما يصفه خيرَ وصفٍ وأحسَنه.. مزيجٌ من أشياء منها المفاجأة بدخول الغرفة التي وُلد فيها الولي الصالح مولاي عبد السلام، وهذا ما لم أتوقعه قط، ومنها الفرحة بالوجود في مكان وُجد فيه الرجل الزاهد العابد العامل، ومنها الرغبة في شكر الله وحمده على تيسير هذه الزيارة ودخول هذا البيت….
حرتُ قليلا، وذهلتُ وشُغلتُ عن كلام الرجل الملتحي، ولم يلتقط منه سمعي سوى عبارات قليلة كدعائه لنا: “الله يْبلَّغْ المقصود”. ولا شك أنه رأى ذهولي وأنا أنظر إلى صندوق داخل الغرفة يغطيه لحافٌ مزخرف، فقال لي وهو يكشف عن اللحاف لأرى الصندوق في وضوح:
– “هذا ماشي ضريح”.
قلتُ كالمستفيق من غفوة:
– “نعم، نعم، هو شيءٌ رَمْزيّ فقط”!
ولا بد أن صديقي مصطفى لاحظ ذهولي، فأسهم إلى جانب الرجل الذي ظننته قيّماً على المكان في مزيد من إيقاظي وهو يشير إلى لوحة معلقة يَسارَ الصندوق ويقول:
– “الصلاة المشيشية”.
خرجنا من “بيت مولاي عبد السلام”، واتجهنا إلى المسجد الذي أطلعني مصطفى على مرافقه، لأذكرَ حينئذ كلمة قالها الرجل الملتحي في حديثه مع مصطفى، وهي “مَرْصيويشْ”، فقلت لنفسي: ربما “ايش” هنا تعني “آل”، ولعل “حمدانيش” و”مرصيويش” تعني “آل حمدان” و”آل مَرصو”، والله أعلم.
غادرنا المسجد وسرنا نحو الغابة ننظر إلى أثر الحريق في المنطقة. نمشي قليلا، ونتوقف لحظة للتحديق في الأشجار والأحجار وما صنعته بها ألسنة النار.
سُرّ مصطفى كثيرا حين رأى أن النار وقفت عند أعتاب المدشر ولم تدخله، وصاغ فرحته في قوله: “الآن ازددتُ يقينا أن (الحصن) اسمٌ على مُسمى، هو الحصن الحصين”.
واصلنا المشي في طريق أوصلتنا إلى ملعب لكرة القدم عند حدود المدشر. هناك جلسنا نتابع مباراة بين لاعبين جُلُّهُم من الفقهاء من حفظة كتاب الله تعالى. أراهم يلعبون بمحاذاة جبل التهمت النار أشجاره، وأرى من وراء شباك المرمى أطفالا صغارا يلعبون، فأقول لمصطفى:
– هنا يظهر أن إرادة الحياة عند هؤلاء الناس تغلب إرادة الموت..كأنهم يسخرون من النار وأثرها، ويلعبون تعبيرا عن الانتصار وفرَحاً بالنجاة!
يصمت مصطفى قليلا، ثم يبتسم ويقول لي:
– البطل الحقيقي هو الذي يطفئ الحريق ويعود سريعا إلى حياته المألوفة!
