قُبَيلَ الخامسة مساءً من يوم الخميس الرابع من غشت انطلقنا، من أصيلة، على متن سيارة الصديق مصطفى. هو القائد، والمرشد، والخبير، في هذه الرحلة، لمعرفته بالمنطقة، وأهلها، والمسالك الموصلة إليها.
قاد مصطفى السيارة نحو أحد الغربية، ثم انعطفنا نحو منطقة تُسمى “سيدْ الحَوْم”، فجماعة المنزلة، ثم البغاغزة، ومنها إلى مدشر “الحصن” مسقط رأس مولاي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه.
لا يخلو الطريق من مناظر طبيعية جميلة رغم قلة الأمطار هذا العام، كما لا يخلو من فوائد عن المناطق التي أراها أول مرة، فوائد أستقيها من قائد الرحلة.
راقني مشهد سد التاسع من أبريل، وعدد من المنازل المتميزة بمعمارها وانغراسها في الجبال والمرتفعات الخضراء، منازلُ تُصافحُ رغبةً دفينة قديمة في سكنى الجبل أو البادية..حلمٌ آخر إلى جانب حلم زيارة مولاي عبد السلام، وهو أن أعيش ما بقي من العمر خارجَ المدينة محاطا بالشجر والنبات، مستمتعا بأصوات الطيور والرياح وسواها من مخلوقات الله، يَسَّرَ الله سبيل هذه الأمنية، وجعلها مفتاحا لكل خير، اللهم آمين!!
بَعْدَ مسافةٍ ومتعةٍ وأحلام وأدعيةٍ انقلبتِ النفسُ من الانبساط إلى الأسى. حدث ذلك حينما أشرفنا على أجزاء من الغابات التي غدت أشجارُها سَوادا ورمادا.
مع كل انعطاف نتطلع إلى الجبال الممتدة على مرمى البصر لنرى أثرَ الحريق الذي نشب بالمنطقة، فإذا بنا أمام أجزاء احترقت كلها، وأجزاء اسْودّ شطرٌ منها وسَلِمَ شطرٌ. بَدا لي المشهد مثل رئة أُتْلِفَ جزءٌ منها بسبب مرض خطير!!
لاحظتُ صَمْتَ مصطفى، وشممتُ في صمته حزنا، ثم تخيلتُ خسارة الناس بسبب الحريق – ومنهم سكان مدشر “الحصن” الذي له فيه أهلٌ وأحباب – ففهمتُ حزنه وصمته حق الفهم، لكني لم أستطع أن أقول شيئا للتخفيف من الصمت الحزين أو الحزن الصامت، فأنا من أعجز الناس وأكثرهم فشَلا في مثل هذه المواقف التي تتطلب كلاما تحول بيني وبينه المشاركة الصامتة في أحزان مَنْ بجواري!!
بعد لحظاتٍ انطلق مصطفى متحدثا متحررا من الحزن الصامت، فسررتُ لذاك، وعرفت أن الشطر السليم من الغابات قد انتصر على الشطر المحترق في عراكٍ وتدافع داخل أعماق صديقي، ولا غرو فهو رجلٌ إيجابي، كما عرفته دوما، ينظر إلى النصف المليء من الكأس، ولا يدع للأحزان فرصةً لتتخذ من نفسه موطنا لها تعيث فيه إتلافا وتدمره تدميرا.
وصلنا سفح جبل العَلَم حيث مدفن مولاي عبد السلام بن مشيش فأوقف صديقي السيارة، ودعاني لزيارة بقايا قصر بناه المولى اليزيد بن محمد بن عبد الله. تجولنا داخل أطلال القصر، واستفدت من شروح صديقي المستقاة من خبرته في مجال البناء، ثم قصدنا لافتة نُصبت قريبا من مدخله لأقرأ ما كُتب عليها:
“قصر مولاي اليزيد
لما تمرد اليزيد على أبيه المولى محمد بن عبد الله العلوي، قصد قبيلة بني عروس بأقصى شمال المغرب باعتبارها مقرا للشرفاء وضريحا لمولاي عبد السلام بن مشيش، وباعتبارها تحظى أيضا باحترام وتبجيل جميع القبائل الموجودة بجوارها.
وكان هذا اللجوء من أجل أخذ البيعة له من هذه المنطقة كلها، فشرع في بناء قصر له بسفح جبل العلم تحت ضريح المولى عبد السلام بن مشيش ما بين عامي 1202 و1204هـ – 1787 و1789م. إلا أن هذا القصر لم يُكتب له إتمام التشييد لظروف سياسية.
ولا زالت جدران قصر اليزيد كأطلال إلى اليوم تشهد على عدم إتمام بنائه”.
تلوت سِرا، ونحن نعود إلى السيارة، قولَ الله تعالى: ((قل اللهم مالكَ المُلْك، تؤتي المُلك مَنْ تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتُعزّ من تشاء، وتُذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير)).
وما هي إلا لحظةٌ حتى أكرمنا الله تعالى بدخول مدشر “الحصن” سالمين فرحين.