غابت الشمس ونحن عائدان إلى المدشر، وتناهى إلى أسماعنا أذان المغرب. وقتٌ آخر له في المدشر، وفي القرى والجبال عامة، طعمٌ مغاير لطعم النهار. إنه بداية الليل الذي يحفز المرء على إرهاف السمع وتحويل النظر من الآفاق إلى الأعماق..وهو، إلى ذلك، ظرفٌ ملهمٌ للشعراء والعاشقين.
لذلك لم أستغرب أن يشير مصطفى إلى منزل حبيبته، ونحن على مقربة منه، ويشرع في الحديث عن ميلاد حبه هنا منذ سنوات الدراسة بالجامعة.
يقول مبتسما: “كنت أقف بجوار منزل خالتي، وأطيل النظر إلى هذا المنزل….”.
وأستحضر وقوف الشعراء على أطلال الأحبة، فيقفز إلى ذهني قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسِقط اللوى بين الدخول فحومل
لكن وقوف صديقي هنا وقوفُ فرحٍ وابتهاج، لا بكاءٍ وحسرة، كيف لا وقد صارت الحبيبة أمّا لأولاده بعد أعوام!؟
هنيئا لك يا مصطفى، وكان الله في عون المحبين الصادقين الذين حُرموا تتويجَ حبهم بزواج يَشفي صدورَهم من حرقة الأشواق وحريق الفراق!!
وقصدنا “مسجد اشقاقرة” للصلاة، ثم ولينا وجوهنا نحو المقهى الصغير والوحيد بالمدشر. مقهى مجاورٌ لروض أطفال.. تجاربُ في مهدها كأنها شرارةٌ لتحولات قادمة على ظهر سلحفاة!
لم تمض دقائقُ على جلوسنا بالمقهى حتى تعالت أصوات رَجُلين يتخاصمان حول ماء عين من العيون الكثيرة بالمدشر. فهمت مما سمعت أن أحدهما يضع داخل العين أنابيبَ كثيرة لجلب الماء نحو منزله أو حقله، وأن ذلك يجعل وصول الماء إلى الرجل الثاني بطيئا وقليلا..
نهض محمد كرمون للوساطة بين الرجلين، فهدأ الخصام بينهما إلى حين. دورٌ من الأدوار التي ينشط لها محمد بمحبة وإخلاص، وعملٌ من أعمال الخير التي جعل نفسَه جسرا لها انطلاقا من محبته لمسقط رأسه الذي لم تُبعده عنه دراسةٌ في جامعة ولا مشاركات في معارض دولية خارج الوطن مما يعد فرصة للكثيرين لتبديل الموطن، ونمط العيش، والأحلام، والأوهام!!
محمد أنموذج لمن يؤمن بتحسين ظروف العيش ببلدته لا بالانتقال للعيش في بلدة ظروفها حسَنة، وعن هذا الاقتناع صدَرَ في تأسيسه دارا للضيافة داخل المدشر.
حدّثنا الرجل، بطلبٍ من مصطفى، عن نبذة من ذكريات الدراسة، والسياسة، والعمل الجمعوي حديثا تلقائيا ينفذ إلى الأعماق، مع لطائفَ وطرائفَ جعلت حديثه عينا نغترف منها غرفات تُذهب عن النفس ما بها من عطش للغرق في بحر الضحك!
لم نشبع من الحديث مع محمد، كما لم أشبع من النهل من عيون الماء داخل “الحصن الحصين”، لكن أذان العشاء، واقتراب انطلاق ليلة الذِّكر كان سببا في أن نغادر المقهى نحو “مسجد المحروقة” الذي سيحتضن عباد الله في ليلة الذكر المباركة لهذا الشهر الكريم.