استلقى على ظهره استلقاء الجدة في حكاية ليلى والذئب، واضعا على وجهه قناعا، يقيه ضوءا مزعجا، وضجيجا قد ينطلق بما لا تشتهي أذناه. لمع في كيانه وميض نشوة صوفية، داهمت عينيه على إثرها أمشاج غبش شارد، جعلته يتمدد على بساط سحري، ففاجأ أذنيه عواء حاد متوتر. خمن أن يكون عراكا شرسا بين ذئبين. انتصب ثقيل الوزن، يمشي ببطء سينمائي. وكما في قصة فانتستيكية، تدلى ظله من الشرفة إلى الأرض، في خفة رواد الفضاء. امرأة جارك بالدور الأرضي، لا تبخل عليه كعادتها بأفخم سباب، وهي تمسك بخناقه، من أجل منعه من الذهاب إلى وسط المدينة.
شهامتك تراود رغبتك في التدخل بلسانك. فاسأله بصوت عال: إلى أين يا جاري العزيز؟. أتتوهم أنك تستطيع وحدك منع الوحش من تلقيح روحك بالسم الزعاف؟. لتعلم أنك ستكون وحيدا، داخل متاهة خانقة. ستجد المدينة تابوتا بمقبرة في هزيع الليل. إذ ستفاجأ بها خاوية عن بكرة أجدادها وآبائها وحفدتها. فتذرع الشوارع الجنائزية الكابية، وتتسكع في عتمة الأزقة الملتوية. سترى ثمة مبنى سينما مهدما، ومركزا ثقافيا دشن منذ عقود دون اكتمال بنائه، ومكتبة أغلقت ثم تحولت إلى مقهى، إلى أن تباغت أنفك نتانة مستنقع خاثر، ستعطل حاستي شمك وذوقك، وتصيب رأسك بالشقيقة الحادة. اسألني أنا. وتراجع القهقرى، راكبا قوارب ديكاميرون بوكاشيو، وقناع الموت الأحمر آلان بو، ودفتر أحوال عام الطاعون ديفو، وطاعون كامو، وعمى سراماغو، وكوليرا امرأة مرهفة اسمها نازك. فارتعب من أكوام الجثث المتفسخة.
ها هو يغذي يقينك بأن الحديث معه حديث طرشان: خلك أنت في كتبك، وادخل سوق رأسك، بدل أن تدخل بين الجلدة والعظم. لا تهتم باستفزازه، وانظر كيف برع في انتزاع كتفيه من كماشة زوجته، في حين وقفت هي واجمة كما لو كانت في حداد. انطلق لقلاقا مرفرفا، إلى أن تلاشى شبحه عند آخر الشارع، فهيمن سكون خاشع.
عبثا استبدت بك الرغبة في استكمال تدخين سيجارتك، وشرب قهوتك المرة، واستئناف قراءتك المنتشية. صفحة، صفحتان، ثلاث، ثلاثون… لم يلبث مواء قطط، أن قرع تجاويف مسامعك الحساسة. أصياح غريق هو، أم صراخ سجين؟. فإلى الشرفة إذن. الضباب الرمادي يجثم على الفضاء، ككل مساءات الخريف. اقفز من الشرفة لتتأكد. يا لهذا الجار المتنطع. رباه، لقد تحول إلى أنقاض إنسان!. حين اقترب بدا شعر رأسه مشعثا، ومعفرا بالغبار، أما وجهه فملطخ بشحوب وجه جثة طافية فوق الماء. ثيابه ممزقة من قدام ودبر، وكأنما نهشته مخالب مدربة. إنه ينعب ويتنفس بصعوبة، بينما يجرجر رجلين حافيتين، تحملان جثة ذابلة، وكأنه عاد توا من حرب عالمية.
ما الأمر يا جاري؟. هل هزمت الوحش؟. لم يسدد عينيه إلى عينيك، كما كنت تتوقع. بل لاذ بأنينه. وبين لحظة ولحظة يغلبه السعال. انطلق يحكي: حينما توغلت وسط المدينة، وجدتها خاوية عن بكرة أجدادها وآبائها وحفدتها. لا كر ولا فر فيها، ولا سيارات ولا دراجات هوائية أو نارية. لم يكن هناك غير صمت المقابر في هزيع الليل. ومع ذلك استمررت أذرع الشوارع الجنائزية الكابية. وفيما كنت أمر بمبنى سينما متهدم، ومركز ثقافي دشن منذ سنوات دون اكتمال، وبمكتبة أغلقت وتحولت إلى مقهى؛ إذا بموجات نتانة لا تطاق، كأنما تتدفق من مستنقع آسن، لفحت أنفي، فبددت حاستي شمي وذوقي. لحظتها عنت لي رغبة ساخنة في امتلاك كمامة واقية من النتانة المجهولة.
اسأله ماذا بعد؟. لا تبال بتجاهله لك. المهم أنه طفِق يحكي: اسمعوا يا ناس. لم تلبث الرائحة الملوثة للروح، أن انقشعت عن أعجوبة، ضاعفت شعوري بوحدة متوجسة. لقد نبتت جلدة يلتصق بعضها ببعض، شرعت تنتفخ بفعل مادة ملتهبة، من غير وضوح من كان يؤججها، إلى أن تحولت إلى كائن مبهم، شديد الانتفاخ كمنطاد عملاق، حصان طروادة أمامه قزم. كان يشبه أسدا غريبا، بلبدة كثة، ترابي اللون، مدرَّع بجلدة تمساح، وله خرطوم فيل طويل، وقرون كركدن حادة، وفم ينفتح وينغلق كملقط هائل، بأنياب قرش صفراء تشبه الخناجر، ولسان أفعى مسنون، وذو أعين فهد غائرة يهطل منها سعير متوهج، ملؤها عتو جوع للحم النيئ. شرع يمشي على قوائم أخطبوطية، وهو يشخر بحشرجة كدوي الرعد في ليلة عاصفة. حين صوب إلي فسفور نظراته الجهنمية، استعرضت ذاكرتي مشاهد الرعب في فيلم العالم فرانكنشتاين، لاسيما حين انقلب عليه المسخ البشري، الذي سبق أن خلقته عبقريته، وانطلق يكسر كل شيء.
وبعد يا جاري؟. غلب علي إحساس باليتم، رغم أن والدي توفيا منذ عقود. فقد فاض على روحي شلال رهبة مهول، إلى حد أنني غبطت الأموات، لأنهم لم يعيشوا هذه اللحظة المدمرة. وإن كانت ذاكرتي تختزن صور أفخاخ مميتة، رممتها بأعجوبة، فإنني ما ظننت في موقفي ذاك، أنني سأفلت من الهلاك هذه المرة، خصوصا حين تبولت من غير إرادتي.
آآآآ تشييي… ما لبثت حواسي أن أصيبت بعمى كلي، لولا أن القلب، الوحيد الذي ظل يرى ويسمع ويشم ويتأوه، احتج مرتجا حين تربص بي المسخ. لم يسعفني وعيي المنفلت، بتخمين من أين هـبَّ هذا الكائن الخرافي، هل من المهابهارتا؟ أم من كليلة ودمنة؟ أم من ألف ليلة وليلة؟. أم تراها عاصفة مدمرة رمته من قمة إيفرست بجبال الهملايا؟، أم أن إعصارا أهوج لا يبقي ولا يدر، جرفه من جبل روكي الأمريكي إلى هنا؟، أم أنه اقتحم المدينة حين وجدها ميتة؟.
أسرعْ بسؤاله كيف أفلت من الهلاك؟. لن تصدقوا أن المسخ ما أن رمقني حتى نفث لعابا متخثرا، واندفع نحوي، محدثا هدير قطار قديم. أما إذا سألتم ماذا فعلت يا ناس، لأفلت من حذفي من الكرة الأرضية؟، فلن تصدقوا. إذ رغم تلعثم روحي، وتقنفذ شعر رأسي، واصطكاك بقايا أسناني، لم أنكفئ جاريا، بل تهاويت في مكاني. وحتى أمنع خيلائي من ادعاء أية بطولة، أقول لكم: إن طائرا من العيار العملاق مثل الرخ، استعصى علي تحديد مكان انطلاقه هو الآخر، أمن جزيرة الواق واق، أم من جبل قاف، أم من مدينة النحاس، أم من أدغال ومغارات ألف ليلة وليلة؟، لم أشعر إلا وبراثنه تختطفني، في اللحظة التي كادت مخالب الوحش أن تنهش ظهري. حلق بي الطائر العملاق عاليا، وجاب ما لا أدريه من مستنقعات، انتفى لحظتها الحاضر والماضي والمستقبل، إلى أن طوح بي إلى هنا. فحمدت الله أنه لحكمة ما، لم يرمني في قرار الثلث الخالي من الدنيا. أتراني كنت في حلم أم في يقظة؟. ستقولون: ما كان عليك مواجهته وحدك، فأقول لكم: لماذا لم نذهب جميعا لمواجتهه إذن؟. اعلموا رحمكم الله، أن المسخ آت في أثرنا آجلا أم عاجلا، وليُلعلم الحاضر الغائب.
في غبش الظلمة تقلب يمينا ويسار. تساءل: ما لك ترتعد، وتصدر أنينا حيوانيا؟. كأنك لبثت في هذه الحالة قرونا ازدادت قرونا، بينما قد تكون ثواني نقصت ثواني. عد إلى هدوئك يا رجل. اخلع عن وجهك القناع، واحمل من الأرض كتابك بشمالك. فقهوتك المرة في انتظارك. أو عد إلى نومك. لكنه من يومها لم يعد ينام مستريحا حتى مطلع الشمس.