علاقة بمقال الإعلامي بوشعيب حمراوي، الصادر بجريدة المساء، عدد:1695 بتاريخ: 06 مارس 2012 في صفحة المساء التربوي تحت عنوان: “حكايات مؤلمة لمدرسات مع التلاميذ والمنحرفين داخل وخارج القسم”. وحسب ما يخلص إليه المقال فإن المستجوبة الأولى من نساء التعليم صرحت: “إن التلاميذ يشكلون كوماندو داخل القسم”، وصرحت الأستاذة الثانية “صرنا نعيش مسرحية مدرسة المشاغبين”، أما المربية الثالثة فقالت: “شخصيتي تثير عواطف التلاميذ”، وبناء على هذه التصريحات يمكن أن نستنتج أن المدرسة العمومية فقدت عبرة وجودها، وفقدت وظيفتها التعليمية والتربوية، وأن المشروع التربوي المغربي باء بالفشل، ووجب الإعلان عن إفلاسه.
غير أن هذه الصورة القاتمة لواقع المدرسة العمومية غير حقيقية، التقطت في زمان ضبابي لفئة من نساء التعليم قاسمهن المشترك أنهن غير موفقات في عملهن المهني، بناء على عدة مؤشرات نستخلصها من تصريحاتهن، إن هذه الصورة للتعليم العمومي شوهدت على صفحة مرآة مكسرة، انعكست بالضرورة على كامرا الإعلام جد مشوهة، وبين الحقيقة والواقع نحاول بكل موضوعية ملامسة الحقيقة الضائعة بين ثنايا ذاك الحوار الصادم، ورصد بعض زوايا المدرسة العمومية، وخاصة ما يتعلق بالمحاور الثلاث التي وردت على لسان الفئة المستجوبة من المدرسات.
إن المجتمع المدرسي سواء في القطاع العام أو الخاص يعاني من عدة اختلالات، مع وجود الفارق في النسبة والإمكانات، من هذه الاختلالات انهيار منظومة القيم، أو بالأحرى تحولها، عدم ربط التعليم بسوق الشغل، تفريخ البطالة المثقفة، شلل الضمير المهني لدى بعض المدرسين، غياب الحوافز التشجيعية، تعطيل آليات الزجر والمتابعة، مساهمة النقابات في تعطيل مساطر الزجر والتأديب، تفشي ظاهرة الغياب المبرر وغير المبرر، تشريعات غير منسجمة مع خصوصيات المجتمع المغربي، مساهمة الخريطة المدرسية في انتقال تلاميذ راسبين، الاكتضاض في الأقسام الدراسية، عدم تأهيل المنتسبين إلى مهنة التربية والتعليم بما فيه الكفاية، بالإضافة إلى كثير من المعوقات.
وبما أن المقال الصحافي لا يتسع للخوض في كل تلك المؤشرات ، ولا يسعفنا على اجتياز تلك التضاريس والمنعرجات، نكتفي بالتعليق على المحاور الواردة على لسان الأستاذات المستجوبات.
المحور الأول: التلاميذ يشكلون كومانضو داخل القسم: إنها نتيجة حتمية لعملية تعليمية فاشلة، ومؤشر خطير لضعف التواصل بين الأستاذة وتلاميذها، وهو إعلان صريح عن تيه المدرسة في محيط التعليم وبحوره، والحالة هذه أن الربان فقد السيطرة على مقود القيادة، ولم يتبين الطريق الموصل إلى شاطئ الأمان، وفقد القدرة على توجيه التلاميذ نحو الاتجاه الصحيح، بل لم يعد قادرا حتى على الدوس على الفرامل، فالقسم يسير في كل الاتجاهات والمنعرجات، إلا في الاتجاه الصحيح، وهو معرض لحادثة سير مميتة في أية لحظة، تفضي بالتلاميذ إلى قسم المستعجلات، وبالأستاذ إلى غرفة الإنعاش.
ورغم استفحال هذه المشكلة التربوية فإن الأستاذة تملصت بكل بساطة من مسؤوليتها المهنية والتربوية، ورمت باللائمة على التلاميذ، بل اعتبرتهم كوماندو داخل القسم، ولم تكلف نفسها عناء البحت عن أسباب الظاهرة، وعن مسؤوليتها في تنامي الشغب في فصلها.
ولنتساءل جميعا: متى يلتجئ التلاميذ إلى الشغب داخل القسم؟، متى ينخرطون كلهم في “كوماندو” الشغب والفوضى، كيف يمكن للأستاذ أن يجنب قسمه الشغب ويحاصر الفوضى؟، فيضمن انتباه تلاميذه وانضباطهم؟، هذه أسئلة وأخرى، حري بكل أستاذ أن يطرحها على نفسه، ويعمل على الإجابة عنها، أما نحن فسنحاول ملامستها في المقاربة التالية:
لكل قسم خصوصياته، ولكل أستاذ طرقه التواصلية وإمكاناته، ولكل مجتمع مدرسي طبيعته وظروفه، ولكن هناك نقط ارتكاز وتقاطع في كل عملية تعليمية وتواصل، لا يجوز تجاهلها أو الاستخفاف بها. فالتلميذ المتهاون، أو الذي لا يقوى على مجاراة أقرانه في المشاركة في الدرس، أو الذي فقد القدرة على التنافس، والفهم والحصول على النقط المرضية، يلتجئ إلى إثارة الشغب والفوضى، كقناع لتغطية شعوره بالنقص أمام زملائه، وهنا تكمن مسؤولية الأستاذ المقتدر وكفاياته التربوية، حيت يدرك خلفيات أفعال التلاميذ وتصرفاتهم، فيعمد إلى معالجة السلوك السلبي لهذا التلميذ أو ذاك قبل أن يشحن عقولهم بالمعارف، ويشرح إشكاليات الدرس بأسلوب بسيط، وطريقة فعالة، يأخذ بيد الضعيف ليلحقه بالمتوسط، ويقرب هذا الأخير بالمتفوق، دون الإخلال بطبيعة العملية التعليمية، ومعدل السرعة في حركية التلاميذ وتفاعلهم مع الدرس.
كما يجب على الأستاذ أن يحسن استثمار الزمن المدرسي، وألا يغتاله بشقيه التعليمي والتعلمي، فيزيغ عن أهداف الدرس الإجرائية، وتضيع منه الكفايات المراد تحقيقها، فيخبط خبط عشواء، ويهدر الزمن المدرسي بافتعاله نقاشات جانبية وهامشية، لا تمت للدرس بصلة، كثير هم الأساتذة من واو الجماعة ونون النسوة يتركون الدرس المقرر جانبا، ويخوضون في مواضيع لا علاقة لها بالدرس، يتحدثون عن الموسيقى والرياضة والسينما وعن أشياء كثيرة، ولا يتركون للزمن التعليمي إلا هامشا ضيقا، ووقتا قصيرا، هو الوقت بدل الضائع، قد لا يكفيهم حتى لتعبئة الوثائق الإدارية (دفتر النصوص ولائحة الغياب)، في مثل هذه الظروف تنشط حركة ردة التلاميذ واللهو والضحك والتراشق بالكلمات، فتتنامى لتصبح فوضى منظمة، وشغبا لا يطاق، ليختلط الحابل بالنابل، ويضيع الدرس، بل يضيع كل شيء.
ولنتساءل كذلك: هل يحدث هذا لكل المدرسين والمدرسات؟، هل هذا حال كل التلاميذ والأقسام؟، الجواب قطعا بالنفي، أغلب الأساتذة والأستاذات يقومون بواجبهم المهني على أحسن وجه، وفي مناخ تربوي لائق، موشوم بالانضباط، والفعالية والتفاعل الإيجابي بين التلاميذ وأساتذتهم، يضمن نجاح العملية التربوية، ويرقى بمستوى التعليم إلى الجودة.
يتحقق هذا الإنجاز لدى أي أستاذ مقدر لمسؤوليته التربوية، كفء يتوفر على رصيد معرفي مهم، وأفق فكري رحب، يحضر دروسه بعناية، ويؤدي واجبه بإخلاص، ويبلغ رسالته بطريقة مناسبة، تجعله قادرا على إثارة فضول تلاميذه العلمي، وجلب انتباههم الفكري، واستقطابهم للمشاركة في بناء الدرس، حافزه في ذلك الواجب المهني، والضمير الحي.
أما وصف التلاميذ بأنهم “كومانضو” داخل القسم فتلك شهادة استسلام الأستاذة، واستقالة عن مهامها موقوفة التنفيذ، مدفوعة الأجر، واعتراف ضمني بأنها أصبحت عاجزة عن قيادة القسم، والقيام بواجبها المهني، فقد جعلت من التلاميذ جبهة مضادة لها، يفصل بينهما خندق سحيق من الجفاء وسوء التدبير، وكل طرف يتربص بالطرف الآخر.
وكلمة “كومانضو” الافرنجية تعني جماعة من العسكر المتمرسين، والمدربين على الهجوم على العدو ومباغتته، لاغتياله أو اختطافه، أو لإلحاق الضرر الكبير بمنشآته، فالكومانضو ينفذ أوامر عدائية ضد هدف معين، والتلاميذ ليسوا كذلك، بل هم فئة من أبناء هذا الوطن، يترددون على المؤسسة التعليمية صباح مساء، ليتلقوا دروسا في التربية والتعليم، لكن إذا وجدوا الجو الدراسي غير مناسب، واصطدموا بطريقة تعليمية عقيمة، أو اكتشفوا ضعفا بينا في مدرسهم، أو غشا في أداء رسالته، تمردوا عليه، وجنحوا إلى الفوضى والشغب، كرد فعل، قد يكون طبيعيا إذا قيس بظروفه، هؤلاء التلاميذ نفسهم (الكومانضو كما وصفتهم الأستاذة) في الحصة الموالية يلتقون بأستاذ مقتدر، يقدر واجبه المهني، يحترم تلاميذه، يشركهم في درسه، ولا يهمش منهم أحدا، هؤلاء التلاميذ يبادلون الأستاذ حبا واحتراما، سواء كان أنثى أو ذكرا، ويتجاوبون معه فكرا ووجدانا، وبانضباط كبير وتفاعل حماسي يساهمون في إنجاح العملية التعليمية، ويرقوا بالدرس إلى مستوى الجودة، بعد أن دمروه وعطلوا سيرورته في الحصة السابقة، مع مدرس لا يستحق صفة الأستاذية.
المحور الثاني: وصف المدرسة العمومية بكونها “مسرحية مدرسة المشاغبين”: مع الأسف الشديد أن المستجوبة الثانية اختزلت ارتساماتها عن المدرسة العمومية بوصفها “مدرسة المشاغبين”، مدرسة تفرز الفكاهة والكوميديا الساخرة، وهو حكم باطل، ووصف مبالغ فيه، قد يصدق في زمن محدد، وفي مكان معين، قد يكون هو قسم الأستاذة نفسها، وليس معنى ذلك أننا نقول: بأن تعليمنا بخير، وأن مؤسساتنا التعليمية خالية من المعوقات السلبية، فالشغب ظاهرة ملازمة للمجتمع المدرسي، بل مواكبة للمجتمع الإنساني على العموم، تنمو وتتقلص في حضرة هذا الأستاذ أو ذاك، حسب توفر أو انعدام ظروف وجودها، هي كالطحالب لا تنمو إلا في بيئتها المناسبة، لذا على الأستاذة أن تبدل ما في وسعها لمحاصرة هذه الظاهرة، وذلك بتعاونها مع زملائها الأساتذة في مجلس القسم، ومع أطر الإدارة التربوية، ومع التلاميذ أنفسهم، المهم ألا تستسلم لمناوشة ضعاف التلاميذ غير الراغبين في الدرس، وأن تحسن من آلية التواصل مع تلاميذها، وأن تحضر دروسها على مقاس التلاميذ، وألا تغرد خارج السرب، وأن تشرك الجميع في مناقشة محاور الدرس، دون التركيز على المتفوقين منهم، لأنهم جميعا في حاجة إلى من يصغي إليهم، ويستثمر قدراتهم الفكرية والتعلمية، وذلك من صميم الواجب المهني، ومن أهم عناصر نجاح العملية التربوية، ولا داعي إلى تكرار ما ورد في المحور الأول، فهو نفسه ينسحب على تعليق الأستاذتين المستجوبتين الثانية والثالثة.
المحور الثالث: وفي تصريح الأستاذة الثالثة (” شخصيتي تثير عواطف تلاميذي…”) وأنهم يتحرشون بها جنسيا، ويتغزلون بها، فهو تصريح صادم، ومسمار يدق في جسم المدرسة العمومية، وخنجار يطعن كرامة وعفة وهامة نساء التعليم، إنه صرخة حادة في وجه القائمين على قطاع التعليم ببلادنا، تلزمهم بمراجعة شاملة لفضاء المدرسة العمومية، وافتحاص دقيق لطبيعة علاقات جميع مكونات المجتمع المدرسي، وإعادة النظر في معايير توظيف المنتسبين إلى وزارة التربية الوطنية، وبرامج تكوين الأساتذة المربين، لتأهيلهم للقيام برسالتهم التربوية على أحسن ما يرام، لأن المدرسة فضاء للتربية والتعليم، وليس ورشة ميكانيك، أو نادي لعرض الأزياء، أو صالون للتجميل.
فقول الأستاذة “شخصيتي تثير عواطف التلاميذ” كلام غير سليم، لأن شخصية الإنسان ليست هي فقط جمال الجسد، ومساحيق التجميل، وحسن الثياب، فتلك مظاهر خارجية للشخصية، وقد تكون خادعة، اختزلها العامة بقولهم: “ألمزوق من برا أش اخبارك من داخل؟” وبقولهم الساخر: “الزواق والنفاق، والعض كالرزيزي”، أما شخصية الإنسان فتتكون من عدة عناصر متداخلة، ينصهر فيها ما هو فكري بما هو روحي وأخلاقي وسلوكي ومهني وقيمي، بالإضافة إلى المظهر الخارجي للإنسان، لذا نصحح كلام الأستاذة، ونقول إن مظهرها الخارجي وليست شخصيتها هو الذي يثير عواطف التلاميذ، فجمالها الجسدي الفاتن، ولباسها المثير، ومشيتها المتماهية، وخوضها مع التلاميذ في مواضيع لا يجرؤ غيرها على الخوض فيها، قصد التقرب منهم وإليهم، هو مربط الفرس، وموطن الداء، نسيت الأستاذة بأنها تدرس تلاميذ في مستوى الثانوي التأهيلي، أي تتعامل مع فئة عمرية في مرحلة المراهقة بامتياز، وهي تعلم طبعا أن المراهق يهتم كثيرا بما هو عاطفي ووجداني، استجابة لتأثير الغريزة الجنسية التي تطغى على جميع الاهتمامات والغرائز، فمن الطبيعي أن يطمعوا في ودها ما دامت تخاطب عواطفهم بدل عقولهم، فهذه الأستاذة تحولت من مربية تشارك الأم الطبيعية في تربية الأبناء إلى غادة حسناء فاتنة تثير شهوة التلاميذ الجنسية، وهي بدل أن تهتم بتحضير الدرس أضحت تحضر نفسها، بل مظهرها، وعوض أن تهيئ جذاذة الدرس تقف طويلا أمام المرآة، تضع المساحيق على وجهها، وتختار من الملابس الأكثر جمالا وإثارة، كأنها ستزف إلى الفارس السعيد، فإذا بها ترتمي بين أحضان تلاميذ مراهقين، بين جدران قسم ضوعت زواياه بعطرها الجميل، كل المؤشرات توحي للتلاميذ أنهم ليسوا في قسم للدراسة، فالمدرسة تستفز مشاعرهم، وتدغدغ أحاسيسهم بحلو الكلام، فيشرد التلاميذ عن الانتباه لشرح الدرس إن كان هناك أصلا درس وأفكار، ويشدون بحبال الغواية إلى جسد الأستاذة، ويميلون حيث يميل جسدها، ويشردون عن المشاركة في الدرس، فيتحولون قسرا إلى عشاق للجمال، يتنافسون فيما بينهم على استمالة رضا الأستاذة، والفوز بابتسامة، غابت لغة العقل وخطاب الدرس، وحضرت لغة الجسد وحوار الغمز، فحق لنا أن نتساءل: من يتحرش بمن؟.
يحيلنا مفهوم المخالفة إلى المذكرة الوزارية المتعلقة باللباس المدرسي، وهندام المربي، حيت يجب أن يكون الشكل العام للأستاذ مناسبا، يعكس نبل الرسالة التربوية التي يطلع بها، ولباسه يوحي بالاحترام والوقار، وخاصة عندما يتعلق الأمر بتاء التأنيث، ومن واجب مدير الإدارة التربوية أن يهمس في مسمع الأستاذة المتبرجة أن تتقي الله في تلاميذها، وأن تحترم منطوق ومضمون المذكرة الوزارية ذات العلاقة بالهندام واللباس المدرسي، ويذكرها بواجبها المهني التربوي، ويحثها على ترميم مظهرها الخارجي ليصبح مناسبا لها كأستاذة ومربية، وأن تهتم بجوهر شخصيتها الباطني، عوض الاهتمام بشكلها الخارجي، وعليها كذلك ألا تستفز غرائز التلاميذ الجنسية، وألا تتلاعب بعواطفهم، فهم أبناؤها وليسوا عشاقها.
وخلاصة القول: إن المدرسة العمومية فقدت كثيرا من مواصفاتها الإيجابية، ولكن ليس بالحجم الذي صرحت به الأستاذات المستجوبات، كما أن أي خلل في المنظومة التربوية هو نتيجة حتمية لتقصير طرف أو أطراف من مكونات المجتمع المدرسي، من أساتذة وتلاميذ وإداريين، ومراقبين تربويين، ومسؤولين في النيابة والأكاديمية والوزارة، فالمسؤولية مشتركة، والتملص منها خيانة، والإدارة التربوية معنية بتحديد مواطن الداء، لتوفير وصفة الدواء، واكتساب المناعة ضد بعض الظواهر المرضية، مثل الشغب والتهاون، والاستهتار بمقومات العملية التعليمية التربوية.