نتأمل تفاصيل حياتنا الدنيوية في وقفة نبغي بها معرفة مدى تطابقها مع ما حث عليه الإسلام وأوصى به، وما نهى عنه وحرمه وأمر باجتنابه، فنكتشف أن هناك هوة كبيرة وأن السطحية تأخذ مساحة مهمة في علاقتنا بجوهر ديننا الحنيف الحريص على مكارم الأخلاق، وعلى توحيد الله وخشيته وتقواه أملا في الفوز بالجنة وكسب رضاه سبحانه وتعالى .
لقد انجرف الناس وراء مباهج الدنيا الزائفة انجرافا، حتى أنهم نسوا أن لهم موعدا ولقاء لا مفر منه برب العالمين، يذكرهم فيه بما أسلفوا في الأيام الخالية، ويعرض أعمالهم التي قدموها لحياتهم الأخرى بمنتهى الدقة والأمانة والإنصاف، دون ظلم أوافتراء أو اتهام باطل. فالكذب صار منهج الناس في الحياة الدنيا، والصدق غدا عملة نادرة الوجود في التعامل، وحب المال بات غاية منشودة بدل وسيلة لتحقيق الضروريات، وتقديس الشهوات أضحى سلاحا يشهر في كل وقت ومناسبة لضرب عموم الثوابت، فبيعت جميع الخصال الحميدة بثمن بخس، وزين كل سلوك قبيح كما يزين كل سم مغلف بالعسل جذبا للنفوس الضعيفة وإغراقا لها في المحرمات.
ساد الطمع والغدر والجحود والقطيعة والكبر والغرور والتفاخر بالأنساب والثروات، وهو ما لا أصل لوجوده في أخلاقيات ديننا الإسلامي الحنيف، صارت المصالح الشخصية أبرز ما يميز العلاقات الإنسانية، وهذا شكل آخر من أشكال الاغترار بالحياة الدنيا، والذي ساهم إسهاما كبيرا في انتشار مظاهر النفاق والتملق والتبعية والظلم والزبونية والمحسوبية والرشوة وادعاء المحبة في خبث دفين ….
إننا ونحن نتصفح كتاب ربنا العزيز ونبحر في عوالمه الراقية والسامية بسمو مكانته ومنزلته، ونحلق في سمائه الغارقة في الطهر والفضيلة والصفاء، تستوقفنا آية كريمة تقول : ” وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” (*) ولعلها تنبيه رباني صريح للعباد، وخصوصا منهم أولئك الذين انخدعوا ببريق الدنيا واعتقدوا بأنهم بما بلغوه فيها قد بلغوا كل شيء، وما معهم من حظ دنيوي وفير يغنيهم عن أي حياة أخرى والانشغال بها، بينما الحقيقة الأكيدة أن ما هم فيه من نعم دنيوية إنما هي نعم زائلة فانية ومنتهية بانتهاء وقتها، ولايدوم منها ويخلد إلا ما تم استثماره لأجل حياة الآخرة الأبدية.
فقبل هاته الآية الكريمة نتلو توضيحا إلاهيا لما سيأتي بعد، يقول ربنا الكريم جل وعلا في مصحفه الشريف : ” اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ” صدق الله العظيم.
ما أحوجنا لتدبر كلمات الله وخطابه الداعي للخير والصلاح والجنة، إن لم يتسن لنا ذلك على طول السنة فليكن شهر رمضان فرصتنا لتقويم كل اعوجاج في تفكيرنا وسلوكياتنا وعقيدتنا، فلنجعل من رمضان محطة رئيسية لمراجعة علاقتنا بربنا وبغيرنا من بني البشر، ولا ندع مفاتن الدنيا تأخذنا ما دمنا قد علمنا أنها مجرد لعب ولهو كما أشار إلينا ربنا الكريم، فالنبات المزهر سيصفر وينتهي إلى حطام، ويصير كما لو لم يكن من الأصل.
فهنيئا لمن استوعب هذا الدرس النفيس وجند نفسه للعمل للحياة الأخرى، حياة الخلود والحق والعدل الإلهي، حياة الجزاء الحسن لمن تعب وجد وأخلص في عمله، وحياة الهلاك والثبور لمن أفنى دنياه في المعاصي وإتيان المنكرات والتجبر والاغترار بما وجد فيها من سراب كان يظنه حقيقة.
بأفعالنا نكتب سطور آخرتنا ونخط أحرف سعادتنا، فلنسع للخير دوما ولنضع نصب أعيننا أننا راحلون مهما طال بنا الزمن، ورحلتنا تحتاج الزاد وزادنا الأول والأخير تقوى الله واتباع أوامره واجتناب نواهيه، فلا ننصت لأهوائنا ولا نعط حواسنا وضمائرنا لدنيا تلعب بنا وبعقولنا فتتركنا لوحدنا نتجرع مرارة غوايتنا في آخرة هي الخير والأبقى.
(*) سورة الحديد، الآية: 20