صدر عن مطبعة الخليج بتطوان سنة 2008 كتاب ” في صحبة سيدي محمد الناصري رحمه الله تعالى” لمؤلفه أبو الخير الناصري، وهو كتاب من الحجم الصغير(79 صفحة)، وضعت على غلافه صورة للراحل سيدي محمد الناصري، وتضمن، فضلا عن التمهيد، محورا يحمل عنوان الكتاب ” في صحبة سيدي محمد الناصري”، وصفحات عنونت ب ” رسائل اليه”، وملحقات هي بورتريه عن أبي عبد الله سيدي عبد الرحمن القصري، ونموذج من رحلاته “ذكريات من هولندا”، ونماذج من رسائل رئيس جمعية أصيلة للتنمية إلى محمد الناصري، واختتم بصور تعود للحظات عاشها الكاتب رفقة والده، وأخرى لم يعشها وإنما شارك والده ذكرياتها عن طريق الصور.
الكتاب ألفه صاحبه بعد رحيل والده بأشهر معدودة، وبث فيه شحنات حزنه العميق على فراق والده، وجعل منه شهادة اعتراف بالفضل والتضحية لأب عظيم وصديق أمثل .
يقول الكاتب : ” … وإجمالا فهذا الكتيب تحية وفاء وتقدير واعتراف بالفضل والتضحية، وهو أقل ما يقدمه ابن لوالد أحل ابنه محل ابنه وصديقه وأخيه .
والدي العزيز:
أعرف أن هذه الأحرف لا تسمو إلى نقائك وصدقك وإخلاصك . وأعرف أن كلماتي تقف باستحياء أمام أعماقك الطاهرة ولكن تقبل مني هذا الجهد المتواضع بنفسك التي عهدتها دوما فيض سماحة وجود وسخاء “(1).
وقد حمل الكتاب بين ثناياه العديد من الدروس والعبر، والكثير من الأخلاق والآداب التي يلزم أن يتصف بها كل أب وكل ابن، وكذا الواجبات التي إن قام طرفا العلاقة بها، سارا بعلاقتهما في درب الرقي والفلاح. وتتناول الأسطر المقبلة بعضا من تلك الدروس والعبر، كما تلم بالرسائل التي بعثها المؤلف إلى أبيه في مناسبات مختلفة.
أساس علاقة الآباء بالأبناء:
يميل بعض الآباء إلى بسط سيطرتهم وسلطتهم على الأبناء، على اعتبار أنها السلوك الأنجع للتربية، غير أن العكس هو السليم، وكلما اتخذ الأب من ابنه ابنا وأخا وصديقا في آن واحد، كلما كفى نفسه شر متاعب كثيرة، وكسب ابنا مطيعا، بارا، ذا تربية قويمة، وخلق حسن، ولعل مطمح كل أب يستشعر جانب المسؤولية بداخله أن يحظى بذرية محبة وفية له ولو بعد الموت .
لقد كان المؤلف أسير عوالم والده على الدوام، وشكلت المحبة المتبادلة بينه وبين والده الدعامة الرئيسية التي عززت علاقتهما الجميلة أكثر فأكثر، لدرجة أنه برحيل والده انتابه شعور كبير بالغربة، ولم يعد يعرف طعما للحياة بعد فقدان أبيه الذي كان أبا عظيما مثلما يصفه في الكتاب .
يقول الكاتب متحدثا عن والده : ” …ولأن ما كان يربطني بك أيها الوالد العظيم يتجاوز علاقة الأبوة الآمرة الناهية بالبنوة المؤتمرة المنتهية إلى التصافي والمكاشفة والمحبة الطاهرة فقد أحسست عند وفاتك بغربة موحشة صرت معها لا أستطيب التجوال والضحك واللهو. أمشي محاطا بأصوات وظلال وجلبة. أعيش في غمار آخرين لكنني أحيا معك. وشتان ما بين العيش والحياة “(2).
إن نفسية الكاتب المتأثرة بلوعة الفراق، نستشفها في العديد من صفحات الكتاب، وهزيمة نفسه أمام قوة الموت باعتباره قدرا محتوما نقف عليها عدة مرات، فتراه يقف تارة مترحما على روح أبيه، و تارة أخرى ينتزع لنفسه الحزينة فسحة يفرغ فيها جزءا من أشجانه .
مكامن عظمة الأب :
كشف الكاتب عن مجموعة من النقاط التي إذا ما اجتمعت أثمرت أبا عظيما وابنا بارا في ذات الوقت، أبرزها :
– مؤاخاة الأبناء ومصادقتهم: ” لستم أبنائي فقط ، أنتم أبنائي وإخواني وأصدقائي “(3).
لم تكن هذه كلمات يرددها الناصري الأب، لكنها حقيقة معيشة كما يصفها الناصري الابن، فعلاقة الأب بأبنائه لم تؤسس على الاستعلاء والأمر والنهي، بل كان الحوار دائم الحضور في الجلسات مع الأسرة الصغيرة . يذكر المؤلف عن والده أنه ” لم يسع قط لاستمداد إشراق زائف لأبوته بإدمان التجهم، وإعلاء سلطة الضرب، واعتبار قراراته فوق النقاش، والنأي بنفسه عن لعب الأطفال الصغار الذين ينبغي ألا يربطه بهم غير الأكل والشرب وتقبيل اليدين كما هو متوارث في الثقافة التقليدية الجامدة ” (4).
ويضيف مستحضرا بعض ذكرياته الجميلة مع والده : ” مازلت أذكر بفرح نادر الشبيه ملاعبته إيانا في مراحل مختلفة من أعمارنا. أذكره وهو يلاكم أحدنا أو يصارعه والآخرون من حوله يضحكون ” (5).
ولم ينس الكاتب أن يقارن بين أبوة وأبوة، لإبراز أوجه الاختلاف بينهما، معيدا قراءة ” الخبز الحافي” التي يتحدث فيها محمد شكري عن والده، فيصفه بالوحش الذي إذا ما دخل الى البيت ف ” لاحركة، لا كلمة إلا باذنه”، وهو الشيء الذي ركز عظمة أبوة والد الكاتب في نفسه، فحمد الله على أبوة رائعة تولي وجهها شطر المحبة الخالصة .
– تحبيب الكتب والقراءة للأبناء: هي جزئية تكمل ما قبلها، إذ يذكر الكاتب أن والده كان محبا للكتب، حريصا على الاحتفاظ بها واقتنائها متى سنحت الفرصة، الشيء الذي هيأ الأجواء لتوفير سند معرفي لابنه في بداية مسيرته الثقافية، وكذا لعشقه القراءة والكتابة .
يقدم الكاتب نماذج لكتب هو مدين لوالده بقراءتها، فنجد حضورا لكتاب ” العبرات” لمصطفى لطفي المنفلوطي، و”يوميات امرأة لامبالية” لنزار قباني، و “الغريب” لألبير كامي، و”صفوة التفاسير” لمحمد علي الصابوني” وغيرها .. مع أعداد كثيرة من مجلة “العربي” في عهودها المزهرة . فالناصري الأب كان يعد التكوين المعرفي لابنه من ضرورات البيت الناصري، و” كان إذا صادف كتبا ذات قيمة وليس لديه مال اقترض لاقتنائها مخافة أن يأتي إلى المنزل لأخذ المال ثم يعود ليجدها قد بيعت “(6).
هذا، وقد اعتنى الكاتب بتوضيح أصول الأبوة والبنوة الحقة، فيخبرنا أن:
– الأبوة واجب ومسؤولية : حيث يحكي أن والده كان يتتبع تكوينه طوال مراحل الدراسة، وكان كثير التردد على أساتذته للسؤال عنه خلقا وتحصيلا، وفي الوقت ذاته كان حريص السؤال لابنه عما اكتسبه من معارف، وعما هو مطالب بانجازه من واجبات . فقد اهتم الأب بتربية ابنه اهتماما عظيما ومن جل النواحي، اصطحبه معه في بعض جولاته، جلسا سويا الى طاولات المقاهي، غرس فيه حب الأمكنة والمدينة الأصل، وركز على الغرض التربوي في كل حكاية يرويها له تتعلق بحياة شخص مر سكرانا بجانبهما ، أو تحول إلى أحمق أو منبوذ في الدنيا بسبب استهتاره .
– يقول الكاتب واصفا جولاته مع والده : ” وكانت تلك الجولات بذارا تربوية رفيعة، آتت أكلها بعد حين بإذن ربها، وأثمرت قناعة كالطود في أن العاقل من اعتبر بغيره واستفاد من تجارب الآخرين”(7).
– الأبناء زينة ليست في ملك أحد: يتحدث الكاتب في مؤلفه عن أولئك العاملين – موظفين كانوا أو غيرهم – والذين يجدون أنفسهم أول كل شهر في حالة إجبار، على أن يقدموا لآبائهم مبلغا ماليا كبيرا، مقتصا من المردود المادي الهزيل الذي يتقاضونه .
نعم، يتفق الجميع على وجوب إنفاق الأبناء على أبائهم، وإن كان الانفاق مهما علا لن يعوض الآباء ولو يسيرا، بالنظر لتضحياتهم الكبيرة وجهودهم العظيمة، التي يبذلونها في أطوار التنشئة التي مر منها الابن، “غير أن هذا الإنفاق يتحول إلى شكل من أشكال الاستغلال، استغلال الآباء لأبنائهم، لا سيما حينما يكون هؤلاء الآباء مستغنين بما في أيديهم عما في متناول أبنائهم، ويندفعون مع ذلك طمعا وجشعا لحرمان الأبناء مما هم في أمس حاجة إليه ” (8) إن الأمر في مثل هذه الحالة يبدو ” شبيها بحالة استرقاق يغدو معها الابن كعبد ملزم بأن يستجيب لآراء الآباء المحلقة في الكماليات والترف ومظاهر الحياة الزائفة “(9).
الأصل في الدين الإسلامي أن الأبناء هم ” زينة الحياة الدنيا “، ومدخر لما بعد الموت، يدعون لآبائهم بصالح الدعاء، وخطوة في سبيل تحقيق مراد النبي صلى الله عليه وسلم المتمثل في التباهي بأمته في اليوم الآخر مقارنة ببقية الأمم (10).
وكان الامام علي، كرم الله وجهه، واعيا بهذا الأمر فقال : ” علموا أبناءكم فإنهم ولدوا لغير زمانكم” ،وهو يقصد أن الأبناء لم يولدوا ليخضعهم الآباء لسيطرتهم وسيطرة عصرهم .
وإلى مثل ذلك يشير قول جبران خليل جبران : ” إنما أولادكم أولادكم وليسوا أولادا لكم ” . بمعنى لن تتصرفوا فيهم كما تشاؤون أو كأنهم أشياء تمتلكونها.. لكن واقع أكثر الناس اليوم بعيد عن هذا الفهم، ولقد لاحظ الكاتب هذا الواقع المعيش، وقارنه بما عليه الأمر داخل أسرته، وفرح كثيرا بتعامل والديه معه بعيدا عن الاعتبارات المادية، فاعتبر ” مثل هذا التعامل يرتقي بالآباء عاليا في عيون الأبناء ويغرق علاقتهم في بحر محبة صافية لا تشوبها شائبة، وإن المجتمع المغربي ليفتقد مثل هذه الأبوة الرحيمة التي قد تكون – بلا ريب – مفتاحا لكثير من مشكلاته وأزماته الأسرية والمجتمعية المادية والروحية ” (11).
* عم في بحرك * : كثيرون هم الآباء الذين يتجردون من مسؤولياتهم مرددين هذه العبارة، غير أن هذه العبارة في حياة الكاتب كان لها مدلول أعمق، فالكاتب لم يلمس قط أن أباه كان يعيش حياته من خلال حياة ابنه، إذ كان يكتفي- رحمه الله – بمناقشة مسألة مبديا رأيه الصريح فيها، مخلصا النصيحة، تاركا مجال اتخاذ القرار للابن كي يتحمل مسؤولية اختياره في الأخير .
فالعبارة لم تكن تعني تخليا عن الابن كما هو سائد، فالناصري الأب كان يظل مرافقا لأبنائه ” جسدا وروحا قبل الاختيار وبعده، ينتشي معهم بمغانم اختياراتهم، ويناضل في مقدمتهم لمواجهة ما قد ينتظرهم من عواقب وخيمة ” (12). لقد كان يترك لهم أمر اختيار سبلهم في الحياة، ويدافع معهم وعنهم وهم يسلكون هذه السبل، وذاك ما جعل المؤلف يعلق عقب حديثه عن هذا الجانب في شخصية والده قائلا : ” وحينما أتذكر هذا التعامل الرفيع منه أستعير لغة أحد العارفين لأقول : كل أبوة تستولي على حياة الأبناء هي أبوة لا يعول عليها ” (13).
– رسائل من الابن لأبيه : هي رسائل بعث بها الكاتب لوالده على سنوات وشهور متفرقة، كانت أولاها من أرفود حيث استحضر فيها الأوقات الجميلة التي كان يقضيها بصحبة والده، وبعض الخصال الحميدة التي يتمتع بها، والدروس التربوية التي استفادها من مجالسته له، حيث كان الوالد يجيد الحكي عن نفسه وعن غيره، دون أن يجعل من نفسه بطلا أسطوريا أو ملاكا تقيا لا يعصي لربه أمرا .
الرسالة الثانية بعثت إلى الوالد من القنيطرة، أفرغ فيها الكاتب شحنات حزينة جراء تأثره بمرض والده، الذي كان يرقد وقتها في غرفة الانعاش بإحدى مصحات الرباط . يسرد الكاتب بعض الأحداث المؤسفة التي صادفها في الطريق، تارة بمدخل القصر الكبير حيث شهدت انقلاب شاحنة قصب السكر، وتارة بطنجة حيث سرقت مكتبة لأحد العلماء البارزين، وتارة أخرى بالرباط حيث انقلاب شاحنة بالقرب من وادي أبي رقراق. هي أحداث تلاقت في قاسم مشترك لسان حاله يقول: ” مت أنت إني عشت بعدك” ، حيث مات البعض، وعاش البعض الآخر، وانشغل بالاستحواذ على الخيرات والاستمتاع بها في ظروف عصيبة .
الرسالة الثالثة، كانت من مدينة القصر الكبير، وهي مسقط رأس والد الكاتب. كتبت هذه الرسالة بعد رحيل الوالد، أثنى فيها الكاتب على أخلاق والده، واسترجع ذكرياته رفقة والده بالمدينة التي كثيرا ما اعتز بها – رحمه الله – وهو صبي، وانتهت الرسالة بالترحم على روح الوالد النقية وعلى أرواح موتى المسلمين .
ختاما فإن الأبوة الصادقة المبنية على محبة الأبناء، والبنوة الحقة المؤسسة على البر وتبادل الحب، لن تجني إلا ثمارا طيبة، ولن يكون عمرها قصيرا بقصر عمر كل فرد فينا مهما طال، بل انها تدوم بدوام الحياة، سيما إذا وضعنا في اعتبارنا أن العلاقة الأسرية، لا يستقر حالها إلا بالحب الطاهر، البعيد عن الرغبة في الامتلاك والتسلط، القريب من الحميمية والتلاحم .
إن ” الأبوة الرحيمة الشاعرة بحاجات الأبناء، المقدرة لظروفهم ومعاناتهم لسبيل من سبل تحقيق الأمن النفسي للأبناء، وزرع المحبة الطاهرة بينهم وبين آبائهم” (14)، وهي مفتاح لحل كثير من مشكلات المجتمع وأزماته المادية والروحية.
الإحالات:
(1) أبو الخير الناصري، في صحبة سيدي محمد الناصري، ص09.
(2) نفسه، ص 11-12.
(3) نفسه، ص13.
(4) نفسه، ص13.
(5) نفسه، ص13.
(6) نفسه، ص17.
(7) نفسه،ص18.
(8) أبو الخير الناصري، لا أعبد ما تعبدون، مطبعة الأمنية، 2011، ص 116.
(9) نفسه، ص 116-117.
(10) نفسه، ص117.
(11) في صحبة سيدي محمد الناصري، ص24.
(12) نفسه، ص22.
(13) نفسه، ص22.
(14) نفسه، ص25.