1- بين الشعر والموسيقى
يندرج هذا المقال ضمن إشكال جمالي مفاده أن الحدود النوعية بين الموسيقى والشعر حدود متقاطعة ومتشابكة إلى حد يصعب الفصل بينها. فقد دأبت كثير من الدراسات النقدية منذ القدم أن تتذوق الشعر وتتأمله من خلال علاقاته التي تجمعه بالموسيقى، بل إن بعض الدراسات الحديثة أصبحت تستحضر كثيرا من التقنيات والمفاهيم والمصطلحات الموسيقية لفهم الطبيعة التخييلية للنصوص الشعرية، وقراءة إيقاعاتها، وأوزانها، ونغماتها، ومدى تحقق شاعريتها.
وقد عرفت قضايا التشكيل الموسيقي في الشعر العربي خاصة في أواسط القرن الماضي ثورة، وبحثا حثيثا عن نظام موسيقي جديد غير مألوف، يخالف بل يهدم الصورة الكلاسيكية المعهودة لإيقاعه، وقافيته، وأوزانه، ونغماته القديمة. كما حاولت هذه النغمات الجديدة الانفتاح على تصورات ورؤى وأدوات شعرية تتميز بالرحابة، والاختلاف النغمي، ولا تنضبط في قيود خارجية، أو قواعد تقليدية، وإنما في بنيات نغمية داخلية تسهم في تكوين صور شعرية تحمل كثيرا من انفعالات الشاعر، وكثيرا من تجاربه المعاشة. ويعد في هذا الصدد كتاب “موسيقى الشعر العربي” للدكتور شكري عياد مشروعا رائدا يقطع الصلة مع مختلف المعايير التعليمية الجاهزة، وينفتح “من جديد على أسس من علمي الأصوات والموسيقى”[2] لإعادة النظر العروضي والنقدي في فهم كثير من مباحث موسيقى الشعر العربي.
في ظل هذا الإطار التعبيري المركب، والجامع بين مظاهر التصوير اللفظي والموسيقي، تندرج قراءة ديوان “سوانح امرأة عادية”، أول ديوان شعري لنعمة بن حلام. هي شاعرة مغربية من الجيل الحديث، شغلتها أسئلة القصيدة حسب ما يفرضه قلق الحياة المعاصرة، وسياق تفاصيل واقعها اليومي المعيش. وأول ما يعكس هذا الانشغال الذاتي الحديث صورة غلاف الديوان ذات الألوان المتشابكة، والمتعددة، والغامقة، وذات الأشكال الممتدة في كل الاتجاهات. إنها تعطي انطباعا أوليا يجسد اشتعال ذات الشاعرة، وفورة مشاعرها، وانشغال نصوصها بصور وتجليات متمايزة. بل إن قراءة أولية لنصوص الديوان تجعلنا نتفطن إلى قوة تكوينه الموسيقي، لنفترض في بداية هذا المقال أن صورة الغلاف ما هي إلا تجسيد فني لسوانح الشاعرة المتسمة بالهروب، وإحساسها العميق بتجليات الزمن، وما تعدد ألوانها إلا تعدد في النغمات الموسيقية التي ستصاحب كلماتها، وأسطرها الشعرية، وكل خيالاتها.
والحقيقة أن التجلياتِ الموسيقيةَ في هذا الديوان متعددةٌ ومختلفةٌ. قد تتخذ طابعا رومانسيا عندما يقترن التصوير بذات الشاعرة فتعانق عوالمَ إنسانية متباعدة. وقد تتلون بنغمات صوفية فتمتد إلى السماء في إشراقات روحية تَطرب لنور الكون والوجود. وفي كل الأحوال تبقى هذه التجليات الموسيقية صورٌ كليةٌ لحالات نفسيةٍ متباينةٍ، توقع إيقاعات شخصيةً، منسجمةَ الأصوات، ومتآلفةَ الدلالات. ولعلي في هذا السياق أتفق مع قولة محمد مفتاح في كتابه: “الشعر وتناغم الكون”: “القصيدة بمثابة النغمة الموسيقية، ومن ثمة، فإنها شبيهة بالأنغام الموسيقية، وتأليفها شبيه بتأليف الأنغام”.[3]
في ظل هذه النظرة الجمالية الرحبة لموسيقى الشعر العربي، وفي ظل عوالم هذا الديوان الذي تصبو سوانحه التصوير المتآلف بين الشعر والموسيقى، يسعى المقال إلى البحث في بعض السمات النغمية التي تكونه، كما يصبو الإجابة عن سؤالين جماليين ملحين هما: كيف تنبني “الصورة الموسيقية” في قصائد نعمة بن حلام؟ وكيف تتشابك حدودها المتناغمة بين عوالم الذات بامتداداتها الإنسانية اللامتناهية، وعوالم الموسيقى بطوابعها الجمالية ذات الوقع الفني المخصوص؟
إن الإجابة عن هذين السؤالين إجابة متأنية يقتضي منا تمعن طبيعة التصوير الموسيقي في الديوان من خلال ثلاث زوايا: “الإيقاع” بسماته المنفتحة على الوجود بمختلف تجلياته الإنسانية، و”المعجم” الذي يسم ألفاظ اللغة ويفجر طاقاتها النغمية، ثم “العروض” الذي يسعى إلى الارتباط بالذات وبموسيقى الحياة نفسها.
2- صور موسيقية ثلاثية الإيقاع:
شغل مفهوم الإيقاع بال الشعراء والنقاد قديما وحديثا. وقد اتخذ هذا المكون الشعري معاني منفتحة في الدراسات النقدية والإبداعية المعاصرة، حيث أصبحت غاياته تأمل حركة الدلالات والأفكار في تساندها مع اللغة، وما ينتجه ذلك من علاقات نصية، ومن تأمل ذاتي وموسيقى وإنساني. وبهذا المعنى خالف الإيقاع معيارية الوزن الشعري التقليدي وقوانينه الصارمة والمختزلة، وانفتحت معانيه على الخطاب والبلاغة في رحابة دلالاتهما، وعلى الحياة في امتداد فضاءاتها وسياقاتها الإبداعية المتباينة.
وفي إطار هذا التصور الرحب يصبو الإيقاع بوصفه سمة جمالية في ديوان “سوانح امرأة عادية” تكوين صور مؤثرة تسائل الذات، والحياة، والوجود الإنساني. والمتأمل في مختلف نصوصه سيلاحظ حتما أن لتركيب عوالمها سوانح تتشكل من إيقاع “ثلاثي” يوجه بعضا من دلالاتها ومعانيها الشعرية. وتتجلى هذه الطريقة التصويرية الثلاثية بدءا من أول سطر تقع عليه أعين القارئ، فعنوان “سوانح امرأة عادية”، جملة اسمية مكونة من ثلاث كلمات رسمت الصورة الإيقاعية الأولى لهذا العمل، ونلاحظ أن أول ما تنبني عليه توزيع نغماتها بين حروف مهموسة ورخوة مثل السين والحاء، وحروف أخرى مائعة وخفيفة مثل النون والواو والميم والياء. من خلال هذه التوقيعات الثلاثة، ومن خلال تفاصيل نغماتها اللغوية ذات الوقع اللين تتشكل الصورة الموسيقية للعنوان، والحقيقة أنها صورة تكثف مقصدية النص وغاياته الجمالية، بل إنها تدعو القارئ إلى العودة إلى علم الموسيقى لاستقراء بعض من حدودها. فالمعروف في النظريات الموسيقية أن الضربة الأولى للميزان الثلاثي هي الضربة الأقوى، تليها ضربتان ضعيفتان، كذلك نلاحظ من طريقة تشكيل الكلمة الأولى في العنوان، أنها الأقوى دلاليا إذ تمثل “سوانح” الجمع والكثرة، وتميل في معناها نحو التجريد والتفكير والتأمل المنفلت، وهي من يوجه معاني الكلمتين اللتين تليها فتعطي قيمة معنوية لامرأة يميزها التفكير والتدبر في أمور الحياة. والمعروف أيضا عند أهل الموسيقى أن الإيقاع الثلاثي “بسيط” غير “مركب”، ما يجعلنا نطمئن مرة أخرى إلى علاقات الانسجام التي تجمع اللغة بالموسيقى في جملة العنوان، فتوظيف لفظة “عادية” تساير بساطة الإيقاع الثلاثي موسيقيا، ومعانيها تميل إلى تصوير امرأة لا تكلف نفسها، بل تجعلها تشبه كافة النساء في طبيعتها، وأحاسيسها، وبساطة طريقة عيشها.
في ضوء هذه الأجواء الإيقاعية الثلاثية التي تحمل صبغة البدايات الموحية، سيلمس المتلقي بمجرد قراءته الأولى لنصوص الديوان تشكيلا ثلاثيا آخر، فالأنواع التي نظمت فيها الشاعرة قصائدها أنواع ثلاثة تتوزع بتدرج بين القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة، ثم قصيدة النثر. وما هذه التحولات النوعية إلا علامة واضحة على إحساس الشاعرة العميق بالزمنين المجرد والمحسوس، ووعيها التام بتشكيلات إيقاعاتهما الشعرية واللغوية، سواء كانت مقيدة أو منفتحة. ويمكن القول أيضا إنها خلاصة تجريب شعري فرضه نسق عصر يتأرجح شعراؤه بين النظم في أنواع شعرية جديدة وبين مريدي العودة إلى النظم العمودي في شكله الفحل.
والحق، أن تساند ما هو نوعي وإيقاعي أمر يدعونا مرة أخرى إلى تأمل طريقهما التصويري جامعين بين القواعد الموسيقية والدلالات الشعرية. تبعا لذلك، يمكن أن نقول إن قصيدة “سلام” أول نص في الديوان تمثل الضربة الأقوى شعريا، إذ تصور في ستة وعشرين بيتا موضوع موت الأب، ولعله حادث دلالي قوي، يعبر عن توقف حتمي للزمن، كما أنه يولد سوانح النهاية التي لا يمكنها العودة لبداية جديدة. وفي نفس سياق الضربة الإيقاعية الأولى التي تتميز بقوتها كانت بداية الديوان بقصيدة “سلام” ذات النظم العمودي، ولعله اختيار نوعي يؤكد قوة وأصالة القصيدة التقليدية، التي تأبى إلا أن تكون حاضرة في كل لحظة فنية أو سياق إبداعي راهن.
وفي خلاصة هذه النبضات التصويرية الثلاثية، يلاحظ قارئ هذا العمل الشعري حضورا عائليا ينحصر في ثلاثة أفراد: الشاعرة، والأب، وابن الأخ يحيي، كما سيلحظ أمثلة ثلاثية أخرى تتمثل في كون القصائد النثرية المقترحة في الديوان لا تتجاوز بدورها ثلاثة نصوص. لذلك يمكن القول إن التصوير الإيقاعي في ديوان نعمة بن حلام يتميز بصور شعرية مخصوصة تنبض من خلال تساند النغمات، ورحابة الإيقاعات، ودلالات السوانح والأفكار، وهو بذلك علامات موسيقية توقع لنا واحدة من أهم التشكيلات التصويرية الجميلة التي تكون نصوص هذا العمل.
3 – تشكيل معجمي مفرد :
الحقيقة أن اعتناء النقد الأدبي الحديث بالمعجمية الشعرية جعل من قاموس القصائد روحها الحميمة التي تكشف شخصية الشاعر وعوالمه الفنية. تبعا لذلك، يفرض الحديث عن بناء “الصورة الموسيقية” في ديوان “سوانح امرأة عادية”، إمعان النظر في معجمه اللغوي بوصفه سمة جمالية مغايرة تجعلنا إزاء ما تولده الشاعرة من ألفاظ وجمل وسياقات لها كونها الشعري والإنساني المخصوصان. ولا مناص في هذا السياق أن نسير على نفس خطتنا التصويرية المتناغمة بين الموسيقى والشعر، لنتأمل من جديد معجم قصائد نعمة بن حلام وما ينسجه من علاقات تخييلية محققا رؤية صاحبته الشعرية، ومنصتا إلى تجربتها الجمالية في تصوير قلقها الذاتي بمختلف حالاته وتحولاته الإنسانية.
وبالنظر الدقيق إلى طبيعة ألفاظ وعبارات الديوان نلمس غنائيتها التي تهيم بين مقامات لغوية وموسيقية جلية. فالمتأمل في قصائد هذا العمل سيلاحظ هيمنة معجم موسيقي ملح: لحن، وشدو، وتغريد، وأوتار، وترانيم، وأهازيج، ونشيد، ونغم، ورقص، وعزف، وطرب، وبيان، ومقام. معجم موسيقي مكثف يعبر عن حالات نفسية متغيرة، فمرة تقترن ألفاظه بصور الحزن والجرح والعزلة كما في الصور الآتية: “عزف” انفرادي، “ألحان” جرحي، “لحن” يناغي شجوني فيحيي رمادي، “أشدو” بوح من مروا بلا جسر بلا طرق، “أشدو” حداء الغيم. ومرة أخرى يقترن بصور الفرح والإقبال على الحياة، ومن أمثلته افتتاح الشاعرة قصيدتها “إشراقةٌ نورانيةٌ” بمفردات تعبر عن اقتران مشاعر “الفرحة” بالحب و”الغناء”، وطي كل الغيوم التي تعكر صفوها. وتبدو مفردات الموسيقى في هذه الصورة محققة فرح الشاعرة بعد حزنها:
يا فرحتي غني الهوى،
ليلي انطوى،
غيمي انجلى [4]
كما أن الشاعرةَ تعلن عن فرحة موسيقية صريحة أخرى في أول لفظة من عنوان قصيدتها “أَنشِدي يا حياة”، لتُفصح بعد ذلك في مطلع نفس القصيدة عن انتشائها بنغمات الحروف، وموسيقى العروض والبحور الشعرية التي تحقق لها الجمال الروحي الممتد بين ثنايا الحياة. وتزيد في التعبير عن انتشائها الحسي من خلال توظيف فعلي الأمر “اصدحي”، و”أنشدي” محددة صورتها التي تستشعر تفاصيل الإبداع الإنساني شعرا وموسيقى. تقول:
أحرفي… أشرقي..
أغدقي بالعطاء
أَنشِدي بالشعور اصْدحي بالجمال،
صوب قصر العروض
أَبحري بالقصيد،
اُرسميني هناك انْقُشي بالفصيح
نغمةً من حروفٍ بعزفِ البيانِ.[5]
أما في قصيدة “أنا النعماء”، النص الذي تبدو فيه ذاتُ الشاعرة بوضوح، فلا يخلو من مصاحبات معجمية جعلت من الموسيقى رمزا لانطلاق الذات نحو نغمات الحلم والكون، وقد صورت الشاعرة نفسها آلة موسيقية وترية دائمة الشدو، مبدعة الألحان. أما الموسيقى في هذه الصورة فأنثوية هادئة، تعزفها مفردات الحلم والأمل والكون والقمر، مرافقة بمفردات الشدو والألحان والأوتار. نقرأ في السطور الأولى لهذا النص:
أنا النعماء يا قومي.
بأحلامي..
بآمالي،
أجوب الكون أقمارا،
فأشدوه بألحاني،
وأوتاري الأنوثيه.[6]
وتتناغم الصورة الموسيقية المشكلة لبداية قصيدة “أنا النعماء”، مع صورة نهايتها، حيث تستمر الشاعرة في معانقة روحية للنغمات الممتدة في الفضاء، وكأنها تصور الموسيقى ملاذا تلجأ إليه الروح كلما رغبت في البحث عن جمال جنونها وشجونها. وفي إطار تصويري تآلفي بين بداية القصيدة ونهايتها تقول نعمة بن حلام موظفة مفردة “النغم” المنساق مع كلمتي “الروح” و”الفضاء”:
ألا روحي أيا روحي
فسيحي في فضاءاتي،
وعودي وردة حبلى
بأنغامي..
وأشعاري..[7]
وبغض النظر عن معجم الديوان الذي يمتح من معين الموسيقى مباشرة، لانلبث أن نلمس توظيف الشاعرة لمفردات تعكس موسيقى الحياة، بل موسيقى الإنسان نفسه. ذلك ما نستشعره في الصور الآتية: هسيس الماء، وشوشات القلم، آهات جرحي، بحيح ندائي، ماتت زغاريد النساء، أنين البعاد، اصهلي بالبهاء، يهمس لي عطرا، تصيح التياعا، لهيبا صاخبا، وغيرها من الصور التي تتشكل في إطار استعارات مكنية، وأصوات نتصور علوها تارة وانخفاضها تارة أخرى، عازفة جملا ميلودية إنسانية، تنطلق منها موسيقى المفردات اللغوية متناغمة مع أصوات الحياة ومنسجمة مع تحولاتها المتباينة. وفي هذا السياق نستحضر عبارة غاستون باشلار التي يقول فيها إن: «القول الشائع “الحياة تآلف وتناغم” حقيقة جريئة. فبدون تناغم، بدون جدلية منتظمة، بدون وتيرة/إيقاع، لا يمكن للحياة وللفكر أن يكونا مستقرين وأكيدين»[8].
ولعل الانتقال من تأمل الكلمات والعبارات في كليتها إلى النظر في أجزائها الصغرى من شأنه أن يحيلنا إلى تنويعات نغمية ذات أثر إبداعي وذاتي مغايرين. وفي هذا الصدد نلمس من خلال الإنصات الدقيق لحركات الحروف في الديوان ألحانا تزيد من الثراء النغمي لمعجمه، وتعابير موسيقية تنحو إلى أن تكون مطابقة بين أصوات الكلمة ومحتواها الدلالي. في ظل هذه الفكرة، نلاحظ أن الشاعرة تجعل نهايات ألفاظها موقعة بحركة الكسرة، سواء كانت كسرة مجردة، محدودة الزمن، أوكسرة ممدودة طويلة الزمن عندما تصحب بياء المتكلم. أمثل لهذه النغمات اللفظية التي تتجلى امتداداتها الصوتية بوضوح من خلال تمعن مقطع تناجي فيه الشاعرة خيالاتها الجامحة:
تعانقني
فتعرج بي
قصور الصمتِ والرهبِ
ومن شرفات أيامي،
أشاهد موكب الصور..
بلا لون،
ولا صوت،
كأسمال بلا جسد..
يطوف بها ضباب صدى،
يحيك ثياب ألحادي[9]
إن قارئ هذا المقطع الشعري سيلحظ حتما عدم خلو أي سطر فيه من توظيف الألفاظ المنتهية بحركة الكسرة. ولارتباط هذه الحركة بنهايات الكلمات إيحاء بتصوير ذي وقع لين، ونغمات منكسرة، وحدود غنائية تنسجم مع الطابع الكلي للديوان، حيث الذاتُ حاضرة، وحيث الوجعُ لا يفارقها، وحيث النغمات في صحبتها.
والمعروف في علم الأصوات أن طريقة نطق حركة الكسرة تعتمد على انخفاض الفك والشفتين. ولطريقة إنتاج هذه الحركة التشكيلية تأثير سمعي منخفض ومائل إلى الأسفل. لذلك نتصور موسيقى كلمات هذا المقطع وكأنها توقع من خلال معجمها نوتات مفعمة بدلالات الأسى والانكسار النفسي، حتى إن الشاعرة تتفنن في رسم هذه الصورة المنكسرة من خلال الاستعانة بكلمتي “الصمت” و”لاصوت”، وكلاهما لفظتان مكسورتان مفعمتان بمعاني الخيبة واليأس. إضافة إلى ذلك، تجعلنا موسيقى الألفاظ المكسورة نرسم صورا حبلى بنغمات الرقة واللين خاصة عندما تقرن بياء المتكلم فتخصص الشاعرة قولها بالتعبير عن ذاتها من خلال ثلاث كلمات: “تعانقني”، و”أيامي”، و”ألحادي”، وهو أمر يتناسب مع الطبيعة الأنثوية المرهفة والحالمة لكل الديوان.
باختصار، تعكس موسيقى الكسرة مظهرا جماليا آخر ينضاف إلى الغنائية الحزينة لمعجم الديوان، وإلى الصورة الكلية التي ترومها الشاعرة في سوانح نصوصها. فلا مناص إذن أن يشكل قاموس القصائد سمة أخرى تتناغم حدودها التصويرية بين تفاصيل اللغة والموسيقى والذات والحياة، لذلك لم تكن غايتنا من خلال رصد هذه السمة عمليات الإحصاء والوصف، بقدر ما كانت استشرافا لخصوصيات التعبير الشعري والإنساني عند نعمة بن حلام.
4 – صورة ” فعولن ” الحزينة :
للصورة الموسيقية في ديوان نعمة بن حلام تجليات جمالية أخرى. فإذا كان معجم الديوان وإيقاعه يتناغمان بين عوالم موسيقية شتى، ويفصحان عن أحاسيسَ مرهفة تمزج بين الوجع الإنساني وأفراحه، فلتشكيل الصورة الموسيقية في هذا العمل تنويع مغاير يستقي طاقته من عالم التفاعيل العروضية، وبالضبط من تفعيلة “فعولن”. إن تأمل طريقة تشغيل هذه التفعيلة سيحيلنا إلى سمة أخرى لها نفس تخييلي منفرد الخصائص التصويرية، فالمعروف أن الإيقاع غير الوزن، إذ يتميز الأول برحابته أما الثاني فينضبط في توقيعات محسوبة وصارمة. ورغم أن تشغيل “فعولن” تندرج ضمن الأوزان الشعرية الحديثة التي تفرض على النص انضباطا من نوع خاص، إلا أن تمعن أبعادها التصويرية لن يفرض علينا بالضرورة الوقوف على معيارية قاعدتها الوزنية بقدر ما سيدعونا إلى انفلات زمني نستشعر من خلاله تشغيلا موسيقيا مقرونا بهموم الذات ومعاناتها.
أول ملاحظة تنتابنا عند القراءة الكلية لهذا العمل أن لا قيود وزنية لنصوصه غير تفعيلة “فعولن” المأخوذة من بحر المتقارب. وباستثناء القصائد النثرية الثلاث، يلمس القارئ نفسه كأنه أمام نص واحد ينبض في ضربات متساوية. إنه اختيار وزني تبوح به الشاعرة في أحد نصوصها المعنون ب”فعولن”، أما الصورةُ النفسية التي ترسمها هذه القصيدة فتقترن بدورها بمشاعر الحزن الذي يلف ذات الشاعرة في عمومها، والذي تلخصه في تفعيلة واحدة ولكن بطريقة فنية وشعرية مدروسة. وقد صورت الشاعرةُ بكل جلاء اقتران “فعولن” بمشاعر الحزن في ثامن سطر من القصيدة بقولها: “يقول احتراقي فعولن، ودائي”[10]. إنه احتراق علني ناطق بحروف الوجع، والبكاء، والسقم.
وتشكل تفعيلة “فعولن” في الديوان كله لحظة تصويرية مفردة، تنطلق لتولد لحظات وتنويعات موسيقية تعتمد على طاقة الصوت النغمية سواء كان حرفا أو كلمة أوصورة. إن الشاعرة تخلق من قيد التفعيلة حرية، كما تجعل منها قوة. ويقال بأن تفاعيلَ بحر المتقارب توحي بالشدة والقوة ولا تصلح للين والرفق، لكن هذا الحكم الفني لا ينطبق على نصوص الديوان التي تتناغم صورها بين سمات الأنوثة اللينة المتسمة بقوة سوانحها وأفكارها.
ومن خصائص “فعولن” الخماسية، أنها متقاربة الأجزاء، غير متباعدة الحروف، تتكون من مقطعين، أحدهما طويل وقوي، والآخر قصير وضعيف. وقد جعلت هذه الخصائص الفنية وزن الديوان يسير في جو من التدفق، والتلاحق، والتتابع. كما أنها جعلت حركة النصوص تتسم بدينامية وسرعة وانطلاق. ولعل “عادية” ثالث كلمة في العنوان أن تجعلنا نكمل رسم صورتها بطريقة توسع من حدودها المفترضة أثناء تأملنا لتشكيلها الإيقاعي، حيث نتصور معانيها هذه المرة قد أخذت صفات امرأة أرقتها سوانحها، فجعلتها تعدو بين دروب الحياة المتباينة فصولها. بذلك تشعرنا صورة “فعولن” بحركية ذاتية تصور رؤية الشاعرة، وتوقع بعمق تجربتها في الحياة.
ومما يؤكد هذه الطاقة المتعاقبة لصورة “فعولن” صياغة أغلب الأسطر والجمل الشعرية للديوان في حيز قصير يتشكل في أحايين من كلمة واحدة، وقد تتشكل في أحايين أخرى من كلمتين. ولهذه الطريقة التشكيلية المنتظمة ألحانا وموسيقى شعرية قوية. تقول نازك الملائكة: “إن الموسيقى، التي هي قوام كل شعر، تضعف بوجود التفاوت في طول الأشطر، بحيث ينبغي للشاعر أن يسندها ويقويها بالمحافظة على وحدة التشكيلة، وبذلك يستطيع الشطر الحر أن يرن ويبعث في وعي السامع لحنا ويخلق له جوا شعريا جميلا”[11]. ونورد من الأمثلة التصويرية في الديوان ذات التعبير الموسيقي الواضح، قصيدة “نجوى” التي نُظمت في إطار تفعيلتين متواليتين، وضمن أسطر شعرية قصيرة، ومنسجمة، وغير متفاوتة:
بحيحٌ ندائي
ضريرٌ بكائي
عتابي بقلبي
خليل يناجي
أروحي تجلي
أهلي بفجري
فضمي بصيصا
يتيما بليلي
وصدي ظلالا
يغشين يومي[12]
إن إلقاء نظرة بصرية خاطفة على هذا المقطع تجلو لنا كيف تنتظم كلماته بشكل ثنائي منسجم النغمات، تضبطها تفعيلة “فعولن” التي تتكرر مرتين في كل سطر شعري. ويصور لنا هذا الانتظام الذي يمضي في حركة سريعة أمل بصيص فجر بهي ترجوه الشاعرة ليعقب ليلها الباكي. هي صورة تُشكل تعاقبا زمنيا بين الفجر والليل واليوم، كما تعكس تكثيفا شعوريا يتسم بالرغبة في تجل روحي يتخلص من ظلال الماضي البائسة. وفي ضوء هذا التصوير المتناغم بين طريقة تعاقب “فعولن” وسوانح الشاعرة المؤرقة، تنكشف صورة هذه الأسطر المتصارعة بين زمن “فعولن” الشعري، والزمن الواقعي لذات صاحبة الديوان.
لقد اعتمدت نعمة بن حلام على طاقة “فعولن” الموسيقية في كل نصوص الديوان. ولعل قراءة كل نص أن يحيلنا إلى تنويعات لحنية مختلفة، وإلى صور منطلقة، لا تنحصر حدودها في قيود وزنية بحتة، بل تنسحب بكل أناة لتخلق فضاءً جماليا مخصوصا، يحقق كل تشكيلات التصوير الموسيقي الممكنة.
5 – خاتمة :
يخلص قارئ ديوان “سوانح امرأة عادية” إلى أنه أمام عمل شعري يحمل سمات تصويرية تتميز بطابعها الموسيقي الطريف. وقد كان تتبعنا لطريقة بناء “الصورة الموسيقية” في هذا العمل نابعا من حوار الشعر والموسيقى بوصفهما إبداعين إنسانيين يشتركان في تحقيق عدد من الوظائف الجمالية. ونستطيع في نهاية المطاف أن نقول إن ديوان “سوانح امرأة عادية” يعتمد في تشكيل صوره الموسيقية على ثراء نغمي هائل من حيث توزيع الأصوات، واختيار الكلمات، والتفاعيل، والبحور، والصور، التي ترتبط بالموسيقى بشكل جمالي واضح. إنه عمل ميلودي أوركسترالي يجمع بين الموسيقى والشعر وينفتح على تناغم المشاعر الإنسانية مع محيطها الواسع. لأجل ذلك، لاحظنا أن صور الديوان تمتح حدودها من الطاقة الذاتية للشاعرة ومن تشكيلات الإيقاع بكيفيات تعبيرية مختلفة. وقد كان “الإيقاع النفسي” تشكيل تصويري آخر أسهم إلى حد بعيد في توجيه صور الديوان إلى مقامات جمالية وموسيقية تعكس ذات الشاعرة في أفراحها وأتراحها.
ديوان “سوانح امرأة عادية”، مقطوعة موسيقية تلخص في جانب منها السيرة الذاتية لنعمة بن حلام: إنه تجسيد حي لمشاعر أنثى كاتبة، عادية في دروب الحياة، تناجي بالشعر وبموسيقاه ذاتها وتجعله بوحا لأفراحها وأتراحها. يبرز هذا الحضور القوي للذات في قصيدة “أنا النعماء”، وقد تضمنت النعماء معاني يحملها الاسم الشخصي للشاعرة من دعة ويسر ونعم. كما تتجلى بوضوح عندما تصرح الشاعرة بخطاب مباشر ميولها للنظم على تفعيلة بحر المتقارب في قصيدة “فعولن”. هي أنثى حزينة، تجرعت آلالام موت الأب في قصيدة “سلام”، وعبرت ثانية عن مرارة موت ابن الأخ في قصيدة “يحيي”. وتبقى أحلام الشاعرة بكل سوانحها وأناتها وشتاتها، صور لمشاعر ممتدة، لاحدود لها، تناغمت أصواتها الشعرية في قصيدة “جنون”، النص الأخير في ديوان “سوانح امرأة عادية”.
هوامش :
[1]– نعمة بن حلام، سوانح امرأة عادية، الراصد الوطني للنشر والقراءة، طنجة، الطبعة الثانية، 2019.
[2]– شكري عياد، موسيقى الشعر العربي، دار المعرفة، مصر، الطبعة الأولى، 1968، ص 14.
[3]– محمد مفتاح، الشعر وتناغم الكون، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2002، ص 182.
[4]– نعمة بن حلام، سوانح امرأة عادية، ص 35.
[5]– نفسه، ص 64.
[6]– نفسه، ص 61.
[7]– نفسه، ص 63.
[8]– غاستون باشلار، جدلية الزمن، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثالثة، 1992، ص 10.
[9]– قصيدة خيالي، ص 56 – 57. يمكن أن نمثل لذلك أيضا بقصيدتي سلام وفعولن.
[10]– نعمة بن حلام، سوانح امرأة عادية، ص 58.
[11]– قضايا الشعر المعاصر، منشورات مكتبة النهضة، القاهرة، ط3، 1967، ص 77.
[12]– نعمة بن حلام، سوانح امرأة عادية، ص 45.