فجأة، تهالكت أمامي ضفدعة كبيرة سوداء، كسيحة ومختلطة الملامح، يصعب تحديد فصيلتها. أتكون جنية من ألف ليلة وليلة، متنكرة في صورة مسخ، أو متقمصة هيئة جرذ ضخم؟، أم هي هبَّة أسطورية هلت من سحيق العصور. هناك دم مترب خاثر يترجرج بين عينيها. ربما لهذا تبدو بين النعاس الثقيل واليقظة الخفيفة.
بعد أن شردت من قناة الصرف الصحي، ربضت بالرصيف المعشوشب مثل أرضية ملعب دولي لكرة القدم، مرتجفة كما لو كانت في حبس احتياطي، انتظارا لتصفيتها. جس ذهولي نأماتها في لحظة خاطفة، فسمعتها تجهش بالأنين المرير، مثل امرأة مظلومة، انطلق العد العكسي لإعدامها. إن سوء حظها قد غامر بالزج بها في حي راق، لتنحبس بين أرجل سمينة، ستفعل بها الأفاعيل لا محالة. بل ومن سوء حظوظها أن ساهم أفول الشمس في التباس حقيقتها. لكن، هل هي ضفدعة أم ضفدع، أم ضبع، أم كائن غيبي تجسد في صورة هذا المسخ؟.
الكاتب: من المحتمل أن تكون ديناصورا، قادرا على دوس الكرة الأرضية، مسخته قرون متوالية من السحر الأسود؟.
الراوي: ما بالك؟. فلمَ لا تتخلى عن جبنك، وتحل محلي في الحكي؟. الزم مكانك، واصمت من فضلك.
الكاتب: ….. انتبه. لقد شرع فضول المارة يجذبهم إلى التحلق حول المسخ.
قطيع المارة شرع يتكاثر تدريجيا، وكأنهم سيقتنصون طريدة نادرة، أو سيشاهدون انطلاق مارد القمقم من عقاله، أو نيزكا فضائيا ملتهبا، حط بناره الحارقة على حيهم. ولم يلبث قطيعهم أن بلغ اثنين وعشرين نفرا، وجوههم تطفح بنعمة أفسدتها مسحة من قسوة، بينما أسمع الضفدعة تُعْوِل متضرعة، وأراها تتربص كامرأة مستفزة، وكأنها تهم بالانقضاض عليهم لتنتزع ألسنتهم. ها؟. لبتها منفوشة، لا تكف عن الارتعاد. ندت عنها نوبة نقنقة كنواح ندابة، كما لو كأنت تعاني آلم مخاض امرأة مشعتة الشعر، متقلصة الملامح، تعض على شفتها السفلى. ماذا؟ أحقا أسمعها تطلب، كالبشر، مساعدة ما؟.
الكاتب: أرأيت يا هذا؟ لو أنها ظلت في بركة فصيلتها، تعاني الضراء وتتمتع ببعض السراء، لما حدث لها مثل هذا الشرود المغامر.
الراوي: بماذا تدمدم؟!. لقد ضيعت علي حالة حيوانية بشرية نادرة !.
الكاتب: لا تقلق. فأنا فقط أريد تشذيب حكيك من كل اجترار وملل وانفعال، لو تفهم. تابع على راحتك.
أومضت داخلي أمنية لو أتيح لأمثال هذا القطيع، الاطلاع على كليلة ودمنة، وخرافات أيسوب. لولا أن بينهم وبينهما مساحة ما بين الليل والنهار. لهذا راود مسمعي هجس الضفدعة: ((خليق بك ألا تهتم بالعَمْلقة الورقية لهؤلاء التافهين، فكثيرة عليهم عمْلَقة العقل والقلب والخيال، لأنهم صم بكم عمي، وخشب مسندة. تفووو…)).
الكاتب: طيب، دافع عنها كما لو كنت تدافع عن امرأتك، لكن بمواجهتهم بحكاية.
الراوي: هات ما عندك، مقبولة منك هذه المرة.
الكاتب: إليك حكاية (الضدفعان). فهي تطفح بما يحرق ثيابهم قبل قلوبهم.
((تجاور ضفدعان، أحدهما يعشش قي البرك، حيث الماء الكثير الذي تحبه الضفادع. والآخر يسكن حارة غائرة، حيث لا ماء إلا ما يخلفه المطر بين أخاديد الأرض. أما ضفدع البرك، فقد حذر صديقه، وحثه على أن يصحبه إلى البرك ليعيش معه، حيث يجد مقامه أكثر أمانا. ولكن الآخر رفض قائلا إنه لا يستطيع أن يرحل عن مكان ألفه. وبعد أيام قليلة، دخلت الحارة عربة ثقيلة، وتحت عجليها سحق حتى الموت)).
آسف. لن أفعل. هل أحكي للحيطان؟!. فمهما سمعوا من درر، لن يتفطنوا لحكمها. إن أمثالهم قد ورثوا غلظة هولاكو. شخصيا أشك أن ترشح رؤوسهم ببصيص صواب، يمد جسرا بينهم وبين الفهم والتفاهم، فهم مستمرئون لموهبة المكر والجشع والشراسة، التي تؤكد انتماءهم عن جدارة واستحقاء إلى عصر الخسران هذا.
الكاتب: كن حياديا. فإنني أرى أنك تقسوا عليهم، أليس من الجائز أن يهموا بإنقاذها؟.
الراوي: وفر على نفسك هذا الكرم. وكن مثل شهرزاد بالنسبة لرواة حكاياتها.
لا سبيل لكبح تراشقهم المسرف بشتى النعوت. أحدهم ذو أذنين طويلتين، تطوع وعيناه تقدحان شررا. نهق في اشمئزاز: ((إنها فأر لعين، لنبعثر مصارينه)). آخر رد عليه بصوت مبحوح كخوار البقر: ((ماذا تعرف أنت؟، بل إنه قط أهلكته شراسته)). غيره تدخل في غير قليل من التعالي، إذ عوى: ((لا، لا، لا هذا ولا ذاك، بل إنه يا جماعة النعاج، قنفذ ضاعت به سبل الغابة)). تفتق رأي آخر، وجهه في طول وجه الكلاب، عن ادعاء بمعرفته بالحيوان، ونبح: ((يا لكم من أغبياء، لا أحد منكم انتبه إلى طول فكيه، إنه كلب مشوه، يا بني عمه)). في حين ماء آخر: ((لأطفئ في جلده سيجاري)). لكن أخطرهم امتشق مسدسا كاتما للصوت، نافخا الهواء بعصبية، ثم نعق: ((ابتعدوا أيها الجبناء، سأكتم صوت هذا المسخ اللعين، في رمشة برق)).
واندفع القطيع بهياج ملغوم، يحزر حقيقة المسخ. فارتفع اللغط. أترى يصح الاطمئنان إلى هذه الرؤوس الثقيلة، أحرى الاطمئنان إلى رأفتهم بعطب ضفدعة، كسيحة مثل امرأة متسولة؟.
الكاتب: لست متفقا معك.
الراوي: تلك قناعتك. ثم، ألا تستطيع قمع فضولك؟ !.
الكاتب: أراك تعض شفتيك، وتصر أسنانك؟.
الراوي: لالالا. بصراحة، لقد تعبت من أوامرك. إنك تتصرف معي كعبد لك. سأختفي.
الكاتب: وأنا نخاسك أيها المغفل. أنا من أوجدك في هذا المعمعان، وعليك أن تطيع؟.
في حين شرع اللغط يشد بعضه بخناق بعض، وكل واحد من القطيع مستلذ بتعصبه لرأيه، مقتنع أن حقيقة المسخ هي ما قال؛ أبت الضفدعة إلا أن تقعد متربصة. ها!.. إنها تحلق مثل صرصار تائه، وتدور دورات قصيرة، وكأنها تختار من تشد على خناقه، ثم حطت في مكانها منهكة، مما أيقظ في نفسي الشك في حقيقتها.
الكاتب: ها هي ما تسميه ضفدعة، ترمقك في سرعة جزء من الثانية، وتغمزك.
الراوي: حدسي لم يعد متأكدا من حقيقة صفتها، لكنني أسميها ضفدعة مجازا.
الكاتب: قل أيضا إنك لم تلمحها تغمزك كامرأة عاشقة؟.
الراوي: لم أر شيئا. ويبدو أنه لم يعد لي مكان هنا، ما دمت لا تستطيع قمع فضولك.
ـ أتهددني ؟ !. ومع ذلك لا بأس عليك. تابع…..
لعله لم يفضل للضفدعة سوى أن تركن للمكر. فربما أسعفتها غريزتها الموروثة أبا عن جد، في لحظة حاسمة. فها هي تتفرس في أرجل القطيع السمينة، كما لو كانت ديدانا تتغذى عليها. دبدبات لهاثها بَخَّت استنكارا ساخرا: ((يا ما أغباكم!. لكم تستسهلون قتلي؟)). ثم حركت يديها، كمن يشمر عن ساعديه. قاست المسافة بعينيها الجاحظتين، بين قناة الصرف الصحي ومكان وقوفها. ارتعدت وهي تمطط ساقيها الخلفيتين متحفزة. أخرجت لسانها نكاية في القطيع. ثم وثبت توا بخفة قطة رشيقة، وانزلقت في النفق البالغ الضيق.
الكاتب: أسمعت صدى قهقهتها الشامتة. ألم يتنمل جسدك؟.
الراوي: أجل، أصغيت لرنين الصوت الأنثوي المموسق، منسابا في أذني. لعلها امرأة مسخت ضفدعة.
تملكني مزيد من الشك. انطمست حقيقة الضفدعة في عمق حدسي. ماذا يكون هذا المسخ؟. ماذا؟. رفقا بعقلي يا ألله. لم أعد أستطيع سماع شيء بوضوح. إذ لا أحد من القطيع شاء أن يتخلى عن رأيه. فتوالى تغلغل وطيس الضجيج في التطاول والتأجج، بشكل يمكن تشبيهه بسوق أسبوعي. وسرعان ما انجلى عن تقاصف البذاءة، وتشابك الأيدي. وهات يا تدافع ويا لَكْم وعراك. فجأة، انتُزِعت الخناجر من أغمادها.