تصرخ بصوت مبحوح، قد تكسرت نبراته بفعل الرطوبة وسكون القبر، وتقول:
أنا لكسوس،
عاشقة نهر اللكوس،
وعروس البحر، فهل من عريس؟،
قد أعياني الصمت الرهيب والحياة في مقبرة النسيان،
أعيش تحت التراب، وخارج منطقة الاهتمام،
بل داخل بؤرة التهميش،
إنني حبلى بكنوز الحضارات القديمة،
غنية بالنفائس الثمينة،
فهل من باحث ومنقب مستنير؟.
لقد أصابني الموت قبل الخريف،
كل الكائنات تموت مرة واحدة،
فلا تتركوني أموت ألف مرة،
الناس يكرهون النباشين وحفاري القبور،
وأنا أعشق معاولهم،
أطرب على نغمات ضرباتهم،
فأرجوكم أن تدعوهم ليزيحوا عني التراب،
ويرفعوا عني اللحد والجمود،
وأن يعروا منكبي،
ويكشفوا عن كفي الذين قيدهما النسيان والعقوق!.
سمعت همسا ينادي للصلاة، فأيقظوني لأصلي،
وقد عشقت الحياة،
فساعدوني لأغني،
لقد علمت داخل زنزانتي الأبدية أن كثيرا من الندوات واللقاءات نظمت من أجلي،
وتسابقت الخطب والكلمات نثرا وشعرا لتجسد بعضا من أمجادي، واختلف العرافون في تحديد ملامح هويتي،
وتضارب الباحثون في اكتشاف حقيقتي، واستجلاء أسراري.
أثناء تلك المناسبات الاحتفالية أصغيت إلى عزف الأنغام،
رمقت من شقوق اللحد ألوان العيد،
والعناق بين المتعلمين وأنصاف المتعلمين،
وقد استهوتني ربطات العنق الجميلة،
والبدل الرسمية الجديدة،
والكل ينادي: لكسوس، لكسوس، هسبريس،
فحسبت لحسن ظني بأحفادي أن إحدى بناتي: العرائش أو القصر الكبير قد زفت للمستقبل السعيد،
أو أن مشروعا تنمويا قد أنجز ليخفف من معاناة البطالة عن أبنائي وأحفادي
فقلت لنفسي: لابد لأم العروس أن ترحب بالمدعوين والضيوف، ومن واجبي كذلك أن أقدم الشكر لمن وفروا الشغل لأحفادي، فمددت يدي إلى ملابسي القديمة لآخذ زينتي فلم أستطع،
لأنني وجدت نفسي مقيدة، واستفسرت عن حالة سرابلي، فأخبروني أنها أسمال ممزقة،
ثم أمرت بإشعال شموع الفرح، فأبلغوني: أن في أعماق القبر لا يسود إلا الظلام،
فأيقنت أنني “لكسوس” أم الحضارات مدينة محنطة،
وأن العقوق والنسيان اغتال فرحتي،
وأن الجحود أطفأ نور ابتسامتي، وأن التهميش رقص طربا في مأتمي!.