الـتقـاعـد في حاجة إلى فلسفة التقاعد / بقلم : محمد الموذن
ولد في نفسي تعثر إصلاح أنظمة التقاعد التخوف على حاضر ومستقبل العاملين في سلك الوظيفة العمومية، والقطاع الخاص على حد سواء، وحرك في نفسي هواجس الشفقة على المتقاعدين المبعدين إلى هامش الحياة المهنية، كما أثار في نفسي دواعي القلق والخوف من المصير، وقضاء أرذل العمر خارج العناية والاهتمام.
لقد أفنى المتقاعد زهرة شبابه في التعب الإداري، وحيويته في العمل المهني، ليتحول إلى مجرد رقم ضائع في رفوف الأرشيف، وعلى هامش الحياة، وليصبح مجرد نكرة، بعد أن كان معرفة متميزة، قدم لوطنه خدمات لا تحصى، ومع ذالك فقد أخرج مكرها من دائرة الاهتمام، وأصبح عرضة للفقر والحاجة، والتنكر والضياع!
فأي مصير رمادي ينتظر المتقاعدين؟، وما هو حجم المعاناة والمتاعب المادية التي تلاحق كل الذين أنهوا حياتهم الإدارية والمهنية؟، وأي إجراء، وأية فلسفة هاته التي لا تعتني بأولئك الذين ساهموا قي بناء مجد وحضارة بلادهم؟، وبدلا من أن تحفهم برداء العزة والكرامة، فقد جردتهم من “النخوة” والشهامة، ورمت بهم إلى متاهات الاحتياج، وضنك العيش والمعاناة!، لماذا يتم إقصاء المتقاعدين من أية زيادة في الأجور؟، لماذا تم تحنيط المتقاعدين في قوالب المعاناة؟، أية حكومة هاته التي تعاقب من ساهم في تقدم المغرب وتنميته؟.
أسئلة كثيرة هي تلك التي يرددها المتقاعدون وأبناؤهم وذووهم وشركاؤهم في المصير، دون أن يجدوا لها أجوبة مقنعة، أو مبررات منطقية مقبولة.
إنه الواقع الذي لا يرتفع، فالمتقاعدون- كما وصف حالتهم الزميل محمد الكاوزي – أناس فقدوا كل شيء، فقدوا صحتهم وشبابهم، فقدوا مراكزهم وهمتهم، فقدوا حتى صفة “التعريف”، وأصبحوا مجرد “أسماء نكرة”، تنكر لهم المجتمع، وتخلى عنهم الجميع!، و”لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم”.
فالتقاعد في بلادنا يفتقد إلى فلسفة، ويفتقر كذالك إلى تقييم منطقي، ولا يقوم على معايير إنسانية، فهو إجراء جائر في حق من قدموا خدمات لهذا الوطن الأصيل، وأدوا واجبهم المهني حوالي (40) أربعين سنة بجد وإخلاص، وبدل أن يكافئوا على حسن العمل والسلوك، فقد تركوا عرضة للإهمال والتهميش، وفي ذلك ضيم ما فوقه ضيم.
فالمتقاعد قد أصبح متقدما في السن، معرضا لكثير من الأمراض، ومحتاجا إلى تغذية خاصة، غنية بالبروتينات، محتاجا كذلك إلى علاج وفيتامينات، فهو إذا في حاجة إلى مصاريف إضافية، والمتقاعد كذلك أصبح “عاطلا” بالقوة والفعل، وأصبح يتوفر على مساحات لا محدودة من الفراغ، والزمن الضائع، والاغتراب والانكسار النفسي، فهو في حاجة ماسة إلى ملء هذا الفراغ الممل القاتل، عن طريق المشاركة في جولات وأسفار للترويح عن النفس، والتخفيف من المعاناة، وللهروب أيضا من الوحدة والانزواء والتقوقع إلى الاندماج في المجتمع، والانصهار مع حركيته، والانفتاح على عوالم أخرى اجتماعية مؤنسة، عن طريق الاطلاع عبر وسائل الإعلام والاتصال، وهذا يكلف مصاريف مالية إضافية، فالمتقاعد إذا في حاجة إلى علاوات، وليس إلى خصم في الراتب واقتطاعات!.
والمتقاعد الذي تجاوز الستين حولا أو يكاد، أصبح في غالب الأحيان أبا أو جدا، يتحمل مسؤوليته التربوية بمفهومها الشمولي، وربما كان جل أبنائه يتابعون دراستهم العليا بالمعاهد والجامعات، وهم في حاجة إلى مصاريف إضافية لشراء الكتب ولوازم الدراسة، وأداء واجب الإقامة والتغذية وما إلى ذلك، والحال هذه أن الأب العائل المتقاعد عاجز كل العجز عن الاستجابة لطلبات أبنائه الطلبة، لأن راتب التقاعد هزيل، والعين بصيرة واليد قصيرة، والعبء ثقيل، وأنا وأنت نحو التقاعد نسير.
إن المنطق السليم يقتضي أن يكون للتقاعد فلسفة واضحة، تحمي المتقاعد، وتوفر له سبل العيش الكريم، وتكافئه على إخلاصه المهني، ومساهمته في تنمية وبناء حضارة وطنه، فليس من العدل في شيء أن نتعامل مع المتقاعد بأسلوب مكانيكي، يجعلنا نستبدله كقطعة غيار بالية بأخرى جديدة، ونرمي القطعة المتآكلة في المزبلة أو “الجوطية”.
فالإنسان المتقاعد مواطن من الدرجة الأولى، قدم الكثير لوطنه، فيجب أن يرد له الاعتبار بإعادة النظر في معايير تحديد مفهوم التقاعد، وتعويضاته المالية، لأن المتقاعد بكل تأكيد يساهم في ازدهار وطنه قبل وبعد التقاعد، ولأنه ليس مجرد قطعة غيار يمكن الاستغناء عنها نهائيا عند البلى أو العطب!.