استراحة محارب أم انكسار كاتب حالم؟
في بداية مشواري الأدبي، لم أتواصل مع شركات التوزيع ولم أعتمد عليها. فقد كنت أسافر، على طريقة الكاتب المغربي محمد زفزاف، في يدي اليمنى تذكرة السفر وفي يدي اليسرى حقيبة بلاستيكية مملوءة بالنسخ الموجهة لمكتبات مدينة من المدن المغربية المحددة سلفا. كان الأمر شاقا، في الأصل، لكن المشقة الكبرى كانت تبدأ عند انتهاء المدة المتفق عليها لعرض الكتاب. فقد كانت بعض المكتبات التي قبلت عرض إصداراتي تغلق أبوابها إلى الأبد، وبعض الأكشاك تنمحي آثارها ولا يبقى لها عنوان للتواصل والبقية الباقية من نقط البيع كانت تطلب مني العودة مرة أخرى للبحث في مخازن الكتب عن المرجوعات لإعادتها لي، سالمة لم تمسسها يد فضولي أو لص كتب.
بعد ذلك، انتقلت إلى المرحلة الثانية: مرحلة التعامل مع “شركات التوزيع”. وقد شجعني على الأمر فكرة واهمة بأن اسمي قد أصبح معروفا على الساحة الأدبية المغربية، نظرا لنشاطي الملحوظ الذي كان يجر علي ويلات الكسالى من الأدباء وجمعيات الكسالى من الكتاب ومقاهي الكسالى من أدعياء الإبداع. وكم كانت “غريبة” تجربة التوزيع هذه التي سأنشر تفاصيلها في القادم من الحلقات! فقد احتفظ الموزع بعناوين “كل” كتبي الصادرة ورقيا على مدى “أحد عشر عاما كاملة” (2007- 2018). وحين طلبت منه إسترجاع كتبي وكشف الحساب، أرسل لي، بعد سنة من المماطلات، المرجوعات “ناقصة” واحتفظ بالعائدات المالية “كاملة”!
أما المرحلة الثالثة، فكانت مرحلة رفع الكتب الورقية إلى رفوف المكتبات الإلكترونية المجانية ومن ضمنها مكتبة موقعي “ريحانيات”. فقد صرت أرفع كتبي الورقية الصادرة للتو، بيدي، إلى المواقع الإلكترونية المتوفرة على النت، مجانا. وكم كانت حسرتي كبيرة حين كنت أقارن رقم الزوار وعدد التحميلات الإلكترونية لأعمالي على النت ورقم المبيعات الورقية على الأرض.
في المراحل الثلاثة التي مررت بها في عالم التوزيع، مرحلة التوزيع اليدوي الهاوي ثم مرحلة التوزيع المؤسسي الاحترافي فمرحلة التوزيع الإلكتروني، لم يكن ثمة لا رغبة في الربح ولا هامش للربح ولا تاريخ لكتاب ربحوا من جراء ما نشروا. فالربح المادي لم يكن ممكنا في زمن من أزمنة الماضي وهو غير كائن في الزمن الراهن كما أن الربح غير ممكن في المستقبل القريب، في مجتمعات تجمع بين “الأمية الأبجدية” و”العداء للثقافة”.
“التطوع” هو ، على ما يبدو، قدر “المثقف الحداثي” في العالم العربي، عكس “المثقف التقليدي” الذي يستفيد “ماديا” حتى من “صلاته” مع الحاكم العربي أيام الجمعة المباركة من كل أسبوع. إذ أن “المثقف التقليدي”، الذي يسمى في أغلب المجتمعات العربية ب”عالم دين”، يتوصل عند عتبة باب الخروج من المسجد، ب”مبلغ مالي مهم” تعويضا له على الوقت الذي قضاه في المسجد يصلي صلاة الجمعة مع الحاكم أمام كاميرات التلفزة التي تنقل عادة هذا الحدث بالمباشر مادام الأمر خال من كل أشكال إبداء الرأي والاختلاف والخلاف. وما يسري على “المثقف التقليدي” يسري على “المطرب” الذي تبقى سهراته مؤدى عنها وحضوره في أنشطة غير فنية مؤدى عنها وظهوره على برامج التلفزة مؤدى عنها… وحده المثقف الحداثي مقدر عليه الصيام والتطوع.
الزاوية التي حشرت فيها السلطة السياسية “المثقف الحداثي” في العالم العربي فرضت عليه العمل التطوعي “دون مشورته” أو “انتظار قراره” أو “توقع رأي مغاير صادر عنه”. فوزارة الثقافة المغربية، مثلا، اليوم تدعم “ماليا” الناشر وليس الكاتب. والناشر يأخذ أعمال الكاتب مقابل “مئة نسخة” أو مئتين، “حسب عدد أصدقاء الكاتب” لأن ثقافة القراءة هي ثقافة لم تنضج بعد في المجتمعات العربية الراهنة. وحتى حين يتقدم الكاتب بصفته ناشرا ذاتيا، يأخذ الموزع أعمال الكاتب ليوزعها على نقط البيع في البلاد فقط لكي يعيد له مرجوعاته، بعد سنين من الانتظار، ويحتفظ الموزع بالعائدات المالية (كما حدث لي شخصيا).
أما الجرائد والمجلات، فتنشر ما يرسله لها الكاتب، إن تفضلت مشكورة بنشر مواده المرسلة، ولكن دون كلمة شكر أو إشعار بالتوصل بالمادة أو إخبار بنشرها أو حتى إرسال نسخة من العدد المتضمن للمادة المنشورة إلى عنوانه البريدي الأرضي أو حتى نسخة إلكترونية من العدد المتضمن للمادة المنشورة.
حاليا، ثمة شبه إجماع بأن “المثقف الحداثي” بكل صفاته هو مجرد “متطوع” لا تنال منه الخسارة ولا يهزمه الفقر. وهي عبارة ذكية للقول بأن المثقف لا يستحق التعويض المالي عن أتعابه كما أنه لا يستحق أن يكون في الواجهة. في البداية، انسقتُ مع “القطيع”، قطيع الكتاب ممن يخشون المطالبة بمستحقاتهم المالية جراء النشر بنوعيه أو المشاركة في التظاهرات الأدبية وبتعويضاتهم عن أتعابهم المشروعة. لكنني، في الأخير، فضلت الانسحاب من “القطيع” والتمرد على ثقافة “التطوع بالآخر/بالمثقف” حين لا يريد هذا المثقف التطوع أو حين لا تكون المبادرة مبادرته بل مبادرة السياسي أو غيره من الفاعلين الآخرين ممن يشترطون مسبقا تعويضات مالية هامة لقاء “التطوع بالآخرين” من المثقفين وباقي الفاعلين لإنجاز مهام كان من المفترض أن ينجزها من عوض ماليا عنها.
خلاصة القول، أن تطوع الكاتب قد يكون مقبولا حين تكون المبادرة مبادرته أو حين هو يدافع عن قضية يؤمن بها وحده كما في زمن الأدب الملتزم أو الادب الملحق بالسياسة. أما “التطوع بالآخر/بالكاتب”، ففيه من الظلم والإذلال ما لم يشعر به، للأسف، كتاب وكاتبات المغرب والعالم العربي اليوم. فهل قدَر الكاتب، في المغرب خصوصا والبلدان العربية عموما، أن يعيش “متطوعا” ينمي رأسمال الناشر والموزع وباقي الأفواه الفاغرة والخزانات الحديدية؟ كل الفاعلين الآخرين من علماء دين وسياسيين وغيرهم يعوضون ماليا عن أتعابهم إلا المثقفين ومن ضمنهم الكتاب. حتى أمسيات الفنانين مدعومة وأمسيات الأدباء “تطوعية” إلا إذا كانت “أنشطة وطنية رسمية”.
الوزارة ذاتها تدعم الناشر ولا تدعم الكاتب ولا تأخذ ولو نسخة واحدة منه حين يقدم المؤلف نفسه ككاتب- ناشر. وهي الخطوة التي تؤيدها فيها الجماعات المحلية في كامل التراب الوطني. فلو كانت كل جماعة محلية مغربية تطلب ولو نسخة واحدة من كل كتاب ورقي صادر داخل التراب الوطني، لكان عدد النسخ التي تأخذها الجماعات المحلية من كل كتاب حديث الصدور ألفا وخمسمئة نسخة وهو عدد الجماعات المحلية في المغرب، ولازدهرت المكتبات العمومية ولانتعشت القراءة ولكن ما يحدث، في حاضرنا، هو الوجه المظلم الذي لا يريد دوامه أحد ممن ينوي تخليد ذريته، هنا، حيث عاش حياته ورسم أحلامه وانتظر تحقيقها.
—-
(يتبع)