قبل نحو عشر سنوات من الآن، نشرت إحدى الجرائد الألكترونية المغربية مقالا من مقالاتي، كان معنونا ب ” المرأة فكر قبل أن تكون جسدا”، كنت قد رافقت المقال بصورة تعبيرية انتقيتها عبر محرك البحث ” جوجل”، صورة عليها سيدتان بين يديهما كتب تتباحثان فيها وتقرآن، ترتديان لباسا شرعيا محتشما يظهر الوجه والكفين ويخفي ما وراءهما.
في الحقيقة لم أكن أقصد مضمون الصورة كما وصفته وأنا أرفقها بالمقال، بقدر ما كنت حينها وجدت فيها الصورة الأنسب، وسط مجموعة صور تركز على مفاتن المرأة وعوراتها مما صرنا نألفه في وسائل الإعلام، ومما يسيء إلى المرأة ويشيئها ويجعل منها سلعة مبتذلة، كل تركيزها يجب أن ينصب على جسدها حتى إذا ما أتلف هذا الجسد بأي عارض من عوارض الحياة المعروفة، استبدلت بأخرى تتوفر فيها مؤهلات الجمال الجسدي البض.
المهم أنني انتقيت الصورة ولم أعتن بشكل جيد بدلالاتها بقدر ما كنت مهتمة بإيصال رسائلي عبر ما كتبت من سطور، وما الصورة إلا مكمل من مكملات العمل التحريري في اعتباري، غير أني صدمت بأحد التعاليق يوجه سهامه إلي من خلال الصورة المرافقة للنص، معتبرا الحجاب أثوابا تشبه الكفن، تخنق الجسد وتفرض عليه نوعا من الانحباس الذي يتوازى مع الانحباس الفكري والتقوقع النفسي الذي لا يسمح للمرأة بتطوير مهاراتها الإجتماعية وربما العقلية على حد تعبير ذات المعلق (ة).
جلست أتأمل الكلام رغم أنه بعيد عن المضمون العام لمقالي، وتساءلت مع نفسي كيف أن الحجاب يقيد مهارات المرأة الإجتماعية وحتى العقلية كما ادعى المعلق(ة)، ونحن لدينا سير سيدات فضليات مسلمات كثيرات قدمن المفيد والثمين للإنسانية والبشرية، استغربت كيف شبه الحجاب بالكفن رغم أنه لا صلة تربطهما ببعضهما البعض.
استحضرت واقعي الشخصي والسنوات الطوال التي قضيتها بدون غطاء للشعر، ألبس ما يحلو لي من ثياب دون تجاوز حدود الحشمة من منطلق الطابع المحافظ العام الذي يميز مدننا الشمالية المغربية الصغيرة، وقارنت بينها وبين السنوات الأخرى التي تلتها والتي اخترت عن قناعة ذاتية وإيمان قوي بما جاء في كتاب الله عز وجل من فرض للحجاب (وإن كنت لست راضية تمام الرضا أو بنسبة مئة بالمئة عما أرتديه)، وأفضل دوما أن أسميه لباسا محتشما فقط لا حجابا، لكوني قرأت كثيرا عن مواصفات وشروط الحجاب فوجدتها أدق وأعمق مما هو منتشر حاليا في عصرنا، وطبعا دون الوصول إلى تشبيهه بكفن المرأة لأن في مثل هذا التشبيه مبالغة وغلو كبير.
خلصت من منطلق تجربتي الشخصية أن لاعلاقة للحجاب والسفور بمهارات المرأة وتطويرها من عدمه، مادامت المرأة في قرارة نفسها عازمة على أن تثبت ذاتها وتفرض وجودها في الحياة، ومستعدة لتحدي الصعاب وفق ما تملك من قوة.
ومما لاشك فيه، فإن قرار الحجاب لابد أن ينبع من داخل المرأة، بلا تعنيف أو إجبار من أي طرف كان، صحيح هو فرض من رب العالمين وعلى المرأة أن تطيع ربها، لكن في ذات الوقت ليس لأي أحد أن يمارس دور الوصاية على المرأة إلا نفسها، فهي من جهة حينما تمارس حقها في الاختيار والتنفيذ تكون مرتاحة نفسيا، وتكون راضية جدا عما أقبلت عليه وستؤديه بحب، عكس إن ارتدت الحجاب تحت تأثير الإكراه، فإن شخصيتها تكون مزدوجة منقسمة إلى قسمين، تتخذ صورتين متناقضتين: أولاها امرأة في زي سافر متبرج بعيدا عن أعين من أجبروها على الحجاب، وثانيها امرأة في زي ساتر محتشم يشبه الحجاب أمام أنظار الآخرين.
كثيرات هن اللواتي ارتدين الحجاب بفترة لا بأس بها ثم نزعنه من بعد، ولو أن المسألة شخصية صرفة تعود للسيدة بعينها لكونها المسؤولة الأولى عن سلوكها وتصرفاتها وأفعالها، إلا أن الفضول كثيرا ما يقود معظمنا للاستفسار حول الأمر، لمعرفة دواعي وملابسات نزع الحجاب، فتأتي الأجوبة مضطربة غير مقنعة تماما، بقدر ما تكون تحمل في ثناياها ردا انتقاميا من النفس التي عانت من مشكلة عويصة ما، أو تعرضت لصدمة قوية زلزلت كيانها فكان التمرد ونزع الحجاب أول خطوة نحو عالم رد الفعل القاسي بقسوة الفعل المسبب للندبات والجروح، حتى والحجاب في الأصل لا ذنب له ولا علاقة له بما قدر من مشاكل ومحن.
إن من سيحاسب على ترك الحجاب أو خلعه بعد التمسك به لمدة من الزمن هي المرأة، ولن يحاسب امرؤ آخر بدلها على ذات الفعل، لقوله جل وعلا : ” ولا تزر وازرة وزر أخرى”، لذلك كان حريا بالعامة الابتعاد عن أمر شخصي كهذا وعدم الخوض فيه، والتشهير بصاحباته السافرات بعد حجاب، أو غيرهن ممن لم يرتدينه من البداية، لأنهم إن فعلوا إنما يصبون النار على الفتيل، ويفضحون ما كان مستورا والله جل جلاله الذي أمر بالحجاب أمر أيضا بالستر على عباده وعدم فضحهم، وإلا كيف يتظاهرون بالغيرة على الدين من جهة، وهم يسيئون إليه من جهة ثانية؟
ليس من العدل مطلقا سب وقذف وتصويب سهام الكراهية اتجاه كل امرأة ترتدي الحجاب، فقط لأنها ترتدي الحجاب، ولأن غيرها من المحجبات قدمن صورة غير مشرفة عن الحجاب باستهتارهن وبسلوكاتهن المستهجنة.
إن كل امرأة – متبرجة كانت أم محجبة – إنما هي في الواقع تمثل نفسها، نفسها فقط، سواء ارتدت الحجاب أو تبرجت، وقد أشرنا سابقا أن موضوع الحجاب في شموليته هو موضوع شخصي صرف، لاداعي لإقحام الكل في جزئياته، ولايجوز النيل منه ومن ثم اقتناص الفرصة للنيل من الدين الإسلامي بمجموعه، فقط لأن هناك نساء عبثن بالحجاب وأسأن التصرف بشأنه، كما لايجوز إقصاء المحجبات من حقوقهن المشروعة، خصوصا منها ما يتعلق ببعض الوظائف، والتي تحث البنات والسيدات على نزع الحجاب إن رغبن في قبولهن بالعمل في الحقل الوظيفي المختار، ولعل في الأمر تقييد لحرية المرأة، علما أنها – المرأة – شرعا وقانونا هي كائن حر له من الحقوق والحريات ماله، وعليه من الواجبات والإلتزامات ماعليه بعيدا عن أي سلطة إذعان وخنوع.
لا يمكن الحديث عن المرأة والحجاب دون الإشارة إلى أولئك المتلاعبات بالدين المتاجرات به تحت غطاء الحجاب، اللواتي يمارسن كل أنواع الموبقات ويتسترن تحت هذا الزي الذي شرع لحفظ الجسد وصيانته وحماية كرامة المرأة، إذ نقر بوجود هذا الصنف الذي زعزع ثقة الناس في كل امرأة ترتدي الحجاب، ونأسف لما ألحقه من أذى وأضرار بالحجاب وبالمحجبات، مثلما نأسف تماما على نعت الحجاب بما لا يليق من نعوت تحط من قيمته وتهزأ برمزيته الدينية . فالتعميم مرفوض قطعا، والحقيقة اليقينية تكذب كل الافتراءات التي يكون الغرض منها التشويه والإساءة ليس إلا.
لقد تكلم الله عز وجل في كتابه العزيز عن الحجاب، وجعله فرضا على المرأة، لما للمرأة من مصالح في المسألة ولما للحجاب من درء للمفسدات، وبالمقابل فرض على الرجل غض البصر اتقاء الوقوع في المعاصي، ولو أن كلا منهما تمسك بتعاليم الدين الحنيف كما جاءت، لكفيت البشرية شر الويلات والمصائب التي تتخبط فيها حاليا، ولكان كل فرد يلزم حدوده ولا يتعداها فيعتدي بذلك على الطبيعة في طهرها ونقائها.
مخطئون أولئك الذين يتخذون الإجبار وسيلة لتحجب المرأة، فيمارسون كل أشكال العنف في حقها لتمتثل لأمرهم والأمر في الأصل هو من رب العالمين، إذ الأولى تلقين المرأة بأن الإسلام دين السلام والرأفة والعفة والخلق الرفيع، وتعليمها الفرق بين نهج طريق الخير والصلاح وطريق الشر والهلاك مع التركيز على النهاية الحتمية لكل منهما، وترك فرصة لها لتستخدم عقلها وتحقق التمييز فتختار جنتها أو نارها بدل التسلط على أفكارها، هذا التسلط الذي لن يفضي إلا إلى نتيجة عكسية، تدمر المرأة داخليا وتقتل فيها حرية اتخاذ القرارات الصائبة، فتتمرد بطرقها الخاصة، وتعيش مترنحة طول حياتها بين حجاب في أماكن وخلع له في أماكن أخرى، أو التزام به كمظهر سطحي دون التقيد بما يرتبط به من أخلاقيات وضوابط ترقى بالنفس إلى أسمى المراتب.
إن كثرة الضغط على المرأة يصيبها بالإختناق، وفي اختناقها جحيم لا يطاق، لذا فاللين وترك فرصة لها لإبداء قناعاتها والتعبير عما يخالج عمقها سبيل مريح للخروج بها إلى بر الأمان، حيث تتحقق الغاية المرجوة دون تصادم أو عناد أو انحراف عن الطريق السوي.
لا يعيق الحجاب طريق المرأة ولا يضعف من قيمة عطائها وقدرتها على الإنتاج، والمرأة التي باستطاعتها أن تنتج ستنتج في كل الأحوال، والتي تعجز ولا تملك القدرة على ذلك لن تفعل سواء بحجاب أو بغيره، ومن الظلم والإجحاف قذف المحجبات بالمتخلفات، إذ يكفي الرجوع إلى الوراء قليلا والوقوف على أن حضارة الإنسان بدأت مع تستره وبحثه عن ثياب تغطي جسده وتحجب عنه تأثيرات التقلبات الجوية، وتصون كرامته كإنسان، بعدما كان يعيش مكشوف العورات يشعر بالمهانة، عاريا معرضا لكل الآفات والانتهاكات.
الدين الإسلامي شرع للعالمين، والجنة والنار يفتحان أبوابهما للجميع، من شاء دخول الجنة اجتهد واشتغل واتقى الله في عباده وعمل صالحا، ومن شاء الثبور كان له ذلك بناء على ما قدمت يداه في الدنيا، فلا صاحبة الحجاب حق لها أن ترمي غيرها بالكفر وتتهمها في عرضها انطلاقا من سفورها، ولا المتبرجة جاز لها الاستخفاف والسخرية والسباب واللعنة في المحجبة بحكم حجابها، ويبقى الإحترام والود سيدا العلاقات بين العموم إلى أن يقول الله عز وجل كلمته ويصدر حكمه في الناس.
نسأل الله تعالى الثبات على العقيدة والدين، والهداية للضالين، والتوبة للخطائين، والمغفرة للمذنبين.