كل كتاب لا يعكس شخصية كاتبه هو كتاب لا يُعَوَّل عليه. والعمل الذي أصدره الأستاذ محمد العربي العسري معنوَنا ب« أقلام وأعلام من القصر الكبير في العصر الحديث – الجزء الأول- » ينتمي إلى صنف المؤلفات التي يطل القارئ من خلالها على ملامح من شخصيات أصحابها ومميزاتهم.
ولقد مكنتني قراءتي لهذا العمل الأدبي من معرفة بعض أخلاق الرجل وفضائله. وتهتم هذه الورقة بإبراز بعض من تلك الأخلاق المتميزة.
الأمانة
أول تلك الأخلاق الأمانة، وهي خلق عظيم نبه كثير من الأدباء والعلماء إلى ضرورة توفره في شخصية من يتصدى للكتابة والتأليف، وفي ظلال هذا الخلق نشبت معارك نقدية كثيرة تحت عناوين مختلفة، لعل أبرزها قضية السرقة الأدبية التي شغلت حيزا كبيرا من جهود النقاد والأدباء العرب.
وتتجلى أمانة ذ. العسري بمفهومها الأكاديمي في عزوه كل قول أو رأي لصاحبه ومصدره الذي ذكر فيه.
على أن ما يميز صاحبنا في هذا الباب أنه لم يوثق المعلومات والاستشهادات والاقتباسات المكتوبة فحسب، بل وعمد إلى توثيق الأخبار والحكايات التي سمعها من بعض أصحابه من الأدباء وغيرهم عن الأعلام المترجم لهم في الكتاب، وإنك لا تكاد تجد حكاية من الحكايات، ولا خبرا من الأخبار الشفوية، مجردا من ذكر من رواه للكاتب أو أمده بمصدره .. ولهذا تكثر في الكتاب عبارات من قبيل : « معلومات أفادني بها الأستاذ أحمد هلالي .. » (ص12)، و« حكى لي هذه القصة الأستاذ محمد الجباري » ( ص19)، و« وثيقة أمدني بها الأستاذ محمد العربي أبو الوفاء » (ص52)، و« أمدني بهذه الوثيقة الأستاذ محمد أخريف » (ص32).
وعندي أن هذا المسلك الفاضل الذي سلكه المؤلف يقدم درسا عظيما لفئة من المشتغلين بالبحث العلمي في بلادنا، ولعله يجيب عن سؤال طالما تردد وعُدَّ أحد معيقات البحث، ألا وهو : لماذا يفضل بعض الناس أن يتركوا ما لديهم من معلومات أو وثائق عرضة للنسيان أو الضياع ولا يقدمونها للباحثين ؟.
احترام الذات والقارئ
وثاني تلك الأخلاق أن المؤلف يحترم نفسه وقارئه؛ فيبتعد عن الادعاء، ويتشبث بالتواضع، عملا بالقول الحكيم « رحم الله من عرف قدر نفسه ».
ويبدو احترام الذات والقارئ أوضح ما يكون حين الترجمة لمبارك السعيد بلقائد – رحمه الله تعالى – إذ نأى الكاتب بنفسه عن مناقشة الاجتهادات والأعمال القانونية للراحل، إدراكا منه لحدود الذات وقدراتها، وابتعادا عن العادة التي ينتهجها الكثيرون ممن يعسر عليهم أن يقولوا في بعض المواضع « الله أعلم »؛ فتراهم يخوضون في كل مجال من مجالات القول، وكل فن من فنون المعرفة في ادعاء وتعالم واضحين فاضحين.
وما أجمل الدرس الذي يلقنه الأستاذ العسري لأمثال هؤلاء حينما يصرح في آخر ترجمته للدكتور بلقائد قائلا : « وبما أن بضاعتي في مجال الدراسات القانونية مزجاة فإنني لن أتطفل على هذا الميدان، والمؤمل أن ينهض بهذه المهمة ذوو الاختصاص لإبراز ما تمثله كتابة الراحل من إضافات » (ص324) .
العدل
أما العدل في شخصية العسري فهو العدل بمفهومه القرآني المستقى من آيات كريمات منها قوله تعالى : « ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى » [المائدة / 09 ] وقوله سبحانه : « وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى » [ الأنعام / 153 ]، أي العدل مع المخالفين بإثبات ما لهم من الفضل، ومع الأنصار بعدم الانحياز التام لهم ظالمين ومظلومين.
ورغم أن الروح التي أملت على المؤلف عمله هي محبة القصر الكبير وأعلامه، فإن تلك الروح لم تحل بينه وبين الحكم بموضوعية في مواضع من الكتاب، وحسبي أن أشير إلى قوله الموضوعي العادل في آخر ترجمة الشاعر المغربي محمد الصادق الشاوي : « يا صاحب [ قصيدة ] ” الحب أقدس” العديد منا قد يختلف معك في اختياراتك وتوجهاتك السياسية، وفي رؤاك للعديد من شؤون الحياة والمجتمع، فهذا أمر إيجابي وحيوي، إذ لكل وجهة هو موليها. لكن أمام هامتك الشعرية، لا يملك هؤلاء وأولئك إلا الانحناء » (ص 147).
وإن في هذا القول لإشارة خفية ونقدا ضمنيا لتغييب العدل عن الساحة الثقافية المغربية حيث يُقْصَى الأديب ويُهمَّش بسبب الاختلاف معه في توجهاته السياسية أو الفكرية.
هذا، ولم ينس المؤلف أن العدل عدل مع النفس بداية، فكان عادلا مع نفسه أيضا، إذ أقر في المقدمة بأن « الكتابة عن أشخاص معينين ليست نهائية، ولا ضربة لازب » (ص08)، وأن « الشخصية الواحدة قد ينظر إليها من زوايا عدة » (ص08)، وهذا يفيد الإيمان بإمكان إعادة الكتابة عن الأعلام المترجم لهم، لأن زوايا النظر تختلف، وباختلافها يختلف الحكم على الشخصية، كما أن الوثائق المعتمد عليها في بعض الأعمال قد تظهر وثائق أخرى تدحضها، أو تصحح بعض أخطائها؛ ولذلك تبقى ” الحقائق” والأحكام التي يتوصل إليها الباحث نسبية وقابلة للمراجعة والنقد.
تلك، إذن، ملامح من شخصية الأستاذ محمد العربي العسري كما تظهر من خلال كتابه الأول، تنبئ جميعها عن شخصية تتحلى بالأمانة، والتواضع، والصدق، والعدل، وقول الحق، وتجنب الادعاء … وهي أخلاق يعد تطبيقها مدخلا رئيسا لتخليق الحياة الثقافية ببلادنا، بعيدا عن كل الشعارات والعبارات المختالة الخاوية.