المغرب بلد مسلم له تاريخ متجذر، والعناية بالمساجد العريقة تدخل في اهتماماته الكبرى، إلى جانب استحداث مساجد جديدة كلما تطلبت الظروف والحاجيات ذلك. مما لا شك فيه أن هناك أكثر من جامع أعظم بأكثر من مدينة مغربية، وسفرنا الرمضاني في هذه الورقة يأخذنا بالتحديد إلى المسجد الأعظم بمدينة سلا، باعتباره واحدا من المآثر الروحية والعلمية التي تميز المدينة، وباعتباره أيضا واحدا من أعظم المساجد في العالم الإسلامي.
المسجد الأعظم بمدينة سلا
هو مسجد يطغى عليه الطابع المرابطي والموحدي معماريا، يقع على مساحة تصل 5,070 متر مربع ( 54,600 قدم مربع )، تم البناء الأول له بين عامي 1028 ميلادية و1029 للميلاد بأوامر من تميم بن زيري، إلا أنه هدم وأعيد بناؤه مرات عديدة. تم ترميمه وتوسيعه في عام 1196م بأوامر من أبي يوسف المنصور، وعندما قصفت القوات الفرنسية مدينة سلا سنة 1851 ميلادية، وكان القصف بستة كور مدفعية، دمر جزء كبير من المسجد، وأغلق الجزء الآخر المتبقي لفترة معينة في ظل الحماية الفرنسية على المغرب، لأنه كان يستعمل للاجتماعات الوطنية في ثلاثينيات القرن العشرين، وقد أغلقته السلطات الفرنسية لتجنب استخدامه مكانا للتوعية الوطنية قبل أن يفتتح بعد ذلك.
بدأت النواة الأولى للنهضة العلمية بمدينة سلا مع إعادة بناء المسجد الأعظم، والذي احتضن مجموعة من الدروس العلمية، وتخرج منه العديد من العلماء الذين ذاع صيتهم بالمشرق من قبيل : غياث السلاوي وأبو عبد الله الدقاق ..إلخ، وخلال فترة المرينيين، غاصت فضاءات الجامع بالطلبة والعلماء، مما جعل السلطان يشيد بجانبه مدرسة هي المدرسة المرينية، وذلك لإيواء الوافدين، سيما وأن الجامع الأعظم بسلا أصبح وقتئذ منارة علمية يقصدها الباحثون عن المعرفة من كل بقاع العالم.
لا يفصل المسجد الأعظم بسلا عن المدرسة المرينية التي بنيت في القرن 14 الميلادي سوى أمتار، حيث توجد بالقرب منه الزاوية التيجانية وضريح الولي سيدي بنعاشر الملقب بسلطان سلا، ويعتبر هذا المسجد ثالث أكبر مسجد في المغرب، بعد مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، ومسجد جامعة القرويين بفاس، ومازال إلى اليوم يحتضن دروسا دينية، ومما ينفرد به كون المؤذن يؤذن في كل صلاتي ظهر وعصر مرتين، فلا يرفع الأذان في سلا إلا بعد سماع أذان المسجد الأعظم.
الصحن الرئيسي
تنفتح قاعة الصلاة في واجهتها الشمالية الغربية على مربع منحرف الشكل، تتراوح مقاييسه ما بين 30 مترا و10 .18 مترا يشكل الصحن الرئيسي للمسجد. هذا الأخير تحيط به صفوف من الأقواس المنكسرة المتجاوزة تتوسطها في الواجهة الجنوبية الشرقية عقود مزدوجة تساهم في تحديد موقع المحراب الصيفي أو العترة وترفع من مكانتها لتنضم بذلك إلى الكشك الأوسط والمحراب وتزيد من أهمية البلاطة الوسطى ومحوريتها بالنسبة للمسجد بصفة عامة وبيت الصلاة بصفة خاصة.
الصحنان الجانبيان
من خصائص المسجد الأعظم وجود صحنين جانبيين يزيدانه تناسقا واتساعا مما يسمح بتصنيفه ضمن المساجد الكبرى في العالم الإسلامي. يحتل هذان الصحنان الجانبيان الواجهتين الجنوبية والشمالية للمسجد، ويغطيان مساحتين مستطيلتين تشكلان امتدادا للأروقة الجانبية. إن هذا التصميم، رغم تشابهه بذلك الموجود بمسجدي حسان بالرباط والقصبة بمراكش، يطرح عدة تساؤلات عن أصل هذين الصحنين وتاريخ بنائهما. فقد حاول البعض ربطهما بالمسجد الفاطمي بالمهدية بتونس التي دخلها أبو يعقوب يوسف منتصرا، في حين رأى فيهما البعض الآخر ما يذكر بالزيادات التي عرفها مسجد سامراء بالعراق وابن طولون بمصر.
غير أن اللجوء إلى هذه الصحون الجانبية على ما يبدو جاء رغبة في توسيع الطاقة الاستيعابية للمسجد، وفي نفس الوقت تعبيرا عن السياسة الموحدية التي حاولت أن تجسد من خلال تصاميم مساجدها عظمتها وقوتها السياسية، وازدهار فنونها وعمارتها خدمة للإسلام الذي نصبت نفسها حارسة له وحامية لأرضه.
الزخرفة
يصعب الحديث عن الزخرفة الأصيلة للمسجد الأعظم لمدينة سلا وذلك لتعرض جل مكونات هذه المعلمة إلى ترميم لم يأخذ في غالب الأحيان بعين الاعتبار أهمية المحافظة على البنيات الأصلية للبناية، مما أدى إلى تغيير جذري لعناصرها، وبالتالي الجهل التام بالخاصيات المعمارية لجدار القبلة وللمحراب والقبب التي استغلت وطورت من طرف حرفيي الموحدين لتزيين مساجدهم.
الأبواب
يتوفر المسجد الاعظم بسلا على خمسة أبواب موزعة على مختلف الواجهات. لكن اثنين فقط يحتفظان ببعض المميزات الزخرفية.
يوجد الأول بالجهة الجنوبية الشرقية وينفتح بجانب المحراب بواسطة قوس منكسر متجاوز (arc brisé outrepassé ولبنات من الحجارة المنجورة تستقبلها عضاضتان (droits- pieds) بسيطتان وخاليتان من الزخرفة.
أما ظاهر القوس فتزينه عقود مصففة (arc polylobé) تنتهي بزخارف أفعوانية (serpentiforme) .وتعلوها نقيشتان تحتضنان زخرفة خطية “الملك لله” تسجيلا لوظيفته الثانية والمتمثلة في استعماله كمقر للقضاء، وتذكيرا وتنبيها للقضاء والمتقاضين الذين كانوا يقصدونه للجلوس لرد المظالم.
أما الباب الثاني فينفتح في وسط الواجهة الشمالية الغربية، ويتميز ببساطة زخرفته وانسجام خطوطه، إلا أن الزخرفة الجصية التي أضيفت إلى واجهته في العقود الأخيرة طمست ملامحه وغيرت الكثير من مكوناته فأفقدته جماليته الأولى ورونقه الأصيل.
الأقواس
لقد تم اللجوء إلى ثلاث أنواع من الأقواس لتحقيق الهدف وتفادي الإطناب والتداخل وإتعاب العين. فبموازاة جدار القبلة تجري سلسلة من الأقواس المفصصة لتزيد من علو وجمالية البلاطة – الأسكوب. أما البلاطات الأخرى فتعلوها عقود منكسرة متجاوزة (brisés outrepassés) سباعية وأخرى خماسية محمولة بواسطة دعامات ضخمة مستطيلة الشكل بقاعة الصلاة ومصلبة الشكل في الواجهة الموازية للصحن الرئيسي للمسجد.
من جهة أخرى تضم الواجهة الجنوبية الشرقية للصحن قوسين متجاوزين يحملهما عمود يعلوه تاج مزخرف بصف لأوراق الأقنثة وإفريز مما يجعل منه مثالا يشبه تلك التيجان الأموية التي تزين محراب مسجد الكتبية بمراكش.
المنارة
تقع المنارة في الصحن الشمالي الشرقي، وهي من بناء السلطان عبد الرحمن بن هشام سنة 1256هـ كما تدل على ذلك نقيشة تعلو الباب المؤدي إلى داخلها. أما المنارة الموحدية فقد تهدمت واندثرت معالمها. وقد ذكر الفقيه ابن علي الدكالي أنه كانت “للمسجد الأعظم منارة رفيعة من بناء يعقوب المنصور الموحدي، لكنها تصدعت بصاعقة أولى وثانية فنقضت سنة 1244هـ عن إذن أمير المؤمنين عبد الرحمن رحمه الله، وأعيد بناؤها فجاءت في غاية الإحكام والحسن والإتقان، وفرغ من بنائها عام 1256، وجل المصروف عليها من بيت المال، وبعضه من الأحباس، ومقدار ما صرف عليها ثلاثة آلاف ريال” .
ويبدو من خلال صور تعود إلى القرنين السادس والسابع عشر الميلاديين أن المنارة تشبه منارة المسجد العتيق بقصبة الاوداية، التي يرجع بناؤها إلى عهد الخليفة عبد المومن بن علي وتظهر على واجهاتها بعض الإفريزات الزخرفية وخاصة التشبيكات النباتية والمعمارية ذات الأشكال الهندسية والأقواس المصففة أو المقرنصة التي أبدع منها الحرفيون خلال هذه الفترة أشكالا متنوعة ومتميزة جعلت منها عنصرا مفضلا على واجهات جل صوامع الفترات اللاحقات.
المصدر: موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.