نظمت كلية الآداب والعلوم الإنسانية (شعبة التاريخ) بالرباط يوم الخميس 20 فبراير 2025 ابتداء من الساعة الثانية والنصف زوالا لقاء ثقافيا تمحور حول قراءات في كتاب ” كنوز خفية لجبالة في لقاء مع التراث الثقافي لأهل سريف” لمؤلفه محمد سعيد المرتجي.
شارك في هذا اللقاء عبد المجيد القدوري من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ليون بوسكنس مدير المعهد الثقافي الهولندي بالمغرب جامعة ليدن، مصطفى النحيلة من المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، وقام بالتسيير سمير الراوي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
استهل النشاط بكلمة ترحيبية بالحضور وبالأساتذة الأجلاء تناولها سمير الراوي، إلى جانب تقديم مقتضب خاص بالمؤلف محمد سعيد المرتجي، وبالأساتذة المتدخلين والكتاب المحتفى به.
فسح سمير الراوي المجال لعبد المجيد القدوري الذي اعتبر كتاب ” كنوز خفية لجبالة في لقاء مع التراث الثقافي لأهل سريف” صرخة من المؤلف محمد سعيد المرتجي من أجل إنشاء متحف للمحافظة على التراث كي لا يضيع، ومن ثم ينقل إلى الأجيال، وهو يعبر عن إرادة واعية بمحاولة اكتشاف الكنوز.
فالكتاب – حسب القدوري – هو بمثابة كنز يقرب من الحياة الثقافية وتراث منطقة آل سريف، انقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول حاول فيه محمد سعيد المرتجي وضع الكتاب في إطاره الجغرافي الزمني، حيث تناول فضاء منطقة جبالة آل سريف خصوصا، وفي المرحلة الثانية حاول أن يوطن الإنسان الجبلي، لتبقى صفحات هذا القسم قليلة مقارنة مع الباقي.
أما القسم الثاني من الكتاب فهو أكبر وكان بمثابة القلب النابض لما أراد أن يقدمه المؤلف محمد سعيد المرتجي. فهذا القسم لم ينغلق على منهج معين، بل انفتح بشكل كبير وحاول مقاربة التراث والظواهر الثقافية معتمدا على وفرة المؤلفات السائدة بالعالم، مستغلا العمل الاتنوغرافي بطريقة ذكية لاستخلاص خصوصية المنطقة.
يضيف القدوري : “محمد سعيد المرتجي لم يسقط في فخ الاستوغرافية الايديولوجية، لقد حاول التعريف بحياة الناس اليومية بما فيها ما يتعلق بدور المرأة في هذه المنطقة سواء فيما يخص الصناعة التقليدية من قبيل الفخار والطبخ وغيره. فالحياة بالنسبة للمؤلف مرتبطة بظروف العيش وهو ما يوضح بشكل جلي خصوصية المنطقة وإن كنا نلمس في خطابه نوعا من العتاب الناجم عن تهميش المنطقة. لقد حاول المؤلف إبراز التراث المحلي وملامسة التراث اللامادي الذي يعتبر مصدر تثقيف لبناء أي حضارة.
من زاوية أخرى تحدث ليون بوسكنس عن كتاب ” كنوز خفية لجبالة في لقاء مع التراث الثقافي لأهل سريف” ونوه بمجهودات مؤلفه محمد سعيد المرتجي الذي وظف معارفه في ميادين مختلفة لتحقيق مقاربة اجتماعية بتفاصيل أدق مستندا على كبار علماء الإجتماع مثل إميل دوركايم. فمنطقة جبالة هي منطقة غنية بثقافتها وتراثها، بفلاحتها وفنها الموسيقي المتفرد والمتمثل في موسيقى زهجوكة.
ليون بوسكنس أشاد بجهود المملكة المغربية في النهوض بالثقافة بمختلف تشعباتها، كما أشاد بدور الملك المغربي محمد السادس الذي يعطي أهمية قصوى للفنون ومكانة رفيعة للثقافة، وخير دليل على ذلك وجود متحف محمد السادس بالرباط الذي يعنى بالتراث والمتاحف والمعرفة في مفهومها الشاسع. وقد اعتبر بوسكنس المغرب بلدا محظوظا مقارنة مع عدة دول تفتقر لهذه الإيديولوجية الهامة.
أما مداخلة مصطفى نحيلة فتركزت حول التراث والعصرنة أو الحداثة، واعتبر قراءة الكتاب ليست بالسهلة، وعلى القراء قراءة ما بين السطور. كما أشار إلى أن الشعب الذي لا يتكلم لغته هو شعب لا تراث له ولا مستقبل، لأجل ذلك كان لزاما حماية التراث، وإنقاذه، وضمان استمراريته.
فيما يخص كلمة مؤلف الكتاب محمد سعيد المرتجي فقد أوضح أن المعهد الثقافي الهولندي كان له دور حاسم في إخراج كتاب ” كنوز خفية لجبالة في لقاء مع التراث الثقافي لأهل سريف” إلى النور، كما توجه بالشكر لسكان مداشر قبيلة آل سريف على حسن ضيافتهم وتجاوبهم خلال عمله الميداني، إذ أقر بأن تجربته معهم كانت مليئة بالمعلومات القيمة والمشاعر الصادقة التي أضافت عمقا لهذا الكتاب.
تحدث محمد سعيد المرتجي عن حياة الكتاب وكيف انطلقت فكرة استكشاف تراث جبالة، خصوصا منطقة آل سريف القريبة من مدينة القصر الكبير، وقد أفاد بأن الانطلاقة كانت من مشروع دراسة أكاديمية كطالب بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، إذ كان الهدف الأساسي منها هو جرد القطع التراثية التي يمكن أن تشكل نواة لمتحف يعكس تراث هذه المنطقة.
يقول المرتجي : ” هذه المرحلة شكلت بداية لاستكشاف الثقافة المادية لجبالة خلال اللحظات الحاسمة من حياتهم، سيما تلك المتعلقة بالفلاحة من إعداد الحقول والزراعة والحصاد والتخزين والاحتفالات الدينية والعائلية، ومن بعد توثيق المقتنيات التي تعكس هذا التراث، ومع تطور البحث بعد توقف نسبي مدة إقامتي بفرنسا بدأ هذا الموضوع يتحول إلى شغف وهاجس معرفي يشغلني بشكل متزايد حيث بدأ معه الاهتمام يتسع ليشمل جوانب أخرى من التراث الجبلي”.
كل هذه العناصر التي ذكرها المرتجي أسهمت في فهم أعمق للشخصية الجبلية والظروف الإجتماعية والثقافية التي شكلت هذه الهوية. لم يعد البحث مقتصرا على جرد القطع أو توثيق التراث المادي فحسب – يضيف المرتجي – بل حاولت تسليط الضوء على التراث غير المادي الذي يتجلى بشكل خاص من خلال التقاليد الشفوية والأساطير وفن الطهي وحياة الأسر ودور المرأة الجبلية المهم في الحياة اليومية، ثم حياة المدشر : الموسم، التويزة، لوزيعة .. إلخ. ثم الاحتفالات الدينية خصوصا التركيز على الموسيقى ورقصة باجلود المهمة جدا في المنطقة إلى جانب الحرف التقليدية من فخار ونسيج وحدادة وغيره.
لقد حاول المرتجي في كل مرحلة جرد القطع التي تعكس التراث، وفي نفس الوقت رصد الطقوس المصاحبة لإنتاج هذه الحرف، فهو يعتبر كتابه ” كنوز خفية لجبالة في لقاء مع التراث الثقافي لأهل سريف” نتاجا لتلك الرحلة المعرفية المستمرة التي بدأت من فكرة محدودة لتتسع وتتطور إلى دراسة لأهم عناصر التراث الجبلي، والذي يهدف إلى تقديم صورة وفية لهذا التراث مع إبراز أهميته في تحديد هوية المنطقة.
إن كتاب ” كنوز خفية لجبالة في لقاء مع التراث الثقافي لأهل سريف” – كما جاء على لسان مؤلفه محمد سعيد المرتجي – يسعى إلى المساهمة في توثيق التراث قبل أن تندثر بعض جوانبه في ظل التحديات الحديثة، حيث الايمان بأن التراث الثقافي يتطور باستمرار وتوثيقه يظل أمرا مهما جدا قبل اختفائه بسبب مجموعة من التحولات ذات العوامل المختلفة الاجتماعي منها والسياسي والاقتصادي .. إلخ، وظهور أشكال جديدة من التراث. فهذه التغيرات تفرض منطقها وتتحدى منطق الحفاظ بشكل كلاسيكي كمتاحف وتوثيق، غير أن مسألة التوثيق تبقى ضرورية جدا للحفاظ على هذه الذاكرة على الأقل، لذلك فدراسة التراث الثقافي وتكوين المجموعات المتحفية يجعل من الممكن الحفاظ على ذاكرة المنطقة وتقوية الشعور بالانتماء لها وللمجتمعات التي تمتلك هذا التراث، وكذا تساعد على التماسك الاجتماعي.
لقد خصص المرتجي الجزء الأخير من كتابه ” كنوز خفية لجبالة في لقاء مع التراث الثقافي لأهل سريف” للمتحف كفضاء لعرض المجموعة التراثية باعتباره عاملا مهما في الحفاظ على التراث وتثمينه، وهذا ليس بالحل السحري طبعا إنما هو مهم لعملية تقريب الجمهور من المجموعات التراثية المحفوظة بداخله. لأجل ذلك جاء إنجاز مشروع ثقافي متحفي قبل التفكير في إحداث أي مؤسسة متحفية، مما دفع المرتجي للتوضيح في كتابه إلى أن فتح نقاش مع الساكنة من الأمور البالغة الأهمية قبل المحاولة بإقامة أي متحف كي لا يتبادر للساكنة بأن هناك مشروع فرض على هذه المنطقة.
إن التفكير كان دائما في مدينة القصر الكبير التي تقع على حدود منطقة أهل سريف أو يمكن توطين هذه المؤسسات في مجال القبيلة. فيما يتعلق بالمقاربة المنهجية فإن المجال المدروس هو قبيلة آل سريف، هذه القبيلة التي تشكل مع القبائل الجبلية الأخرى كيانا حغرافيا متجانسا إلى حد ما من وجهة نظر مادية وتاريخية وثقافية واجتماعية إلى غير ذلك، على الرغم من وجود بعض الاختلافات المحلية البسيطة والتي يتم التعبير عنها من خلال المهارات الحرفية والممارسة والإبداع الفني وكذلك المعتقدات والعادات، علاوة على ذلك فإن السمة السائدة بالنسبة لهذه المنطقة أي موقعها الجبلي المنعزل مقارنة مع مناطق بوسط المغرب. هذا الموقع الجغرافي أكد هذه الشخصية المتفردة، لهذا اعتمد البحث الميداني على ملاحظة ممارسة الأهالي والانغماس المطول في البيئة المعيشية للسريفيين، بمعنى السكن معهم، التجربة، والملاحظة التشاركية والمقابلة أيضا وتدوين الملاحظات والتسجيل السمعي والبصري إلى غير ذلك من التقنيات التي تستعمل في البحث الإتنوغرافي.
بالنسبة للمصادر البيبليوغرافية التي تناولت قبيلة آل سريف فإنها تظل قليلة العدد، وتعطي معلومات وصفية متناثرة وغير متسقة، ولكنها بشكل عام تجسد مجموعة من الدراسات والمقالات ذات طبيعة إتنوغرافية عن شمال المغرب أنجزت في نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين، وأهم هذه الدراسات هي ما جاءت في الأرشيف المغربي وكتابات ميشو بيلير ، هذا الأخير الذي كان من ساكنة مدينة القصر الكبير لمدة طويلة، وكانت له مدة تفوق 12 سنة، وكان ذا اتصال مباشر مع منطقة آل سريف والهبط، فكانت إنتاجاته عن وصف الحياة في هذه المناطق (منطقة جبالة ومنطقة الهبط) ومدينة القصر الكبير بطبيعة الحال.
لقد تم التعامل في هذا الكتاب مع الوثائق البليغة والغنية بالمعلومات بروح نقدية حذرة وهو ما أفرز نهجا لا يعتبر هذه الدراسات المنشورة سابقا حقيقية لافتقار المسافة والتمحيص الدقيق في استخدامها، على عكس الحرص القوي على وضع المؤلفين في سياقهم التاريخي وإضفاء مزيد من الدقة على تفسيراتهم.
يواصل محمد سعيد المرتجي حديثه قائلا: ” لقد بدأت البحث الميداني سنة 1997 إذ كنت طالبا حينئذ، مما مكن من الملاحظة الدقيقة لعناصر التراث وسياقاته، ووفر فرصة جيدة لمقارنة ما تم ذكره في المصادر الإتنوغرافية والواقع الميداني”.
فتح باب النقاش في الختام، وفسح المجال لطرح أسئلة الحضور على الأساتذة المشاركين في قراءة الكتاب، وانتهى اللقاء بصور تذكارية توثق لهذه اللحظات الثقافية القيمة.
* الصور بعدسة : مدونة أسماء التمالح