قبل ثلاث سنوات من الآن، حضر الأستاذ الفاضل أحمد إبراهيمي رحمة الله عليه إلى باب بيتنا لتقديم العزاء في رحيل شقيقتي الغالية ” كوثر ” تغمدها الله بواسع رحمته. صلى المرحوم الجنازة مع المصلين التي تمت استثناء في ساحة بباب منزلنا، حيث فرضت ظروف الوباء ” كورونا ” إغلاق المساجد وقتئذ، فشيع – رحمه الله – جثمانها إلى مقبرة الرحمة بمدينة القصر الكبير مع المشيعين.
في المقبرة وبعد الانتهاء من الدفن، اقترب الأستاذ إبراهيمي من والدي المنهار يربت على كتفيه في محاولة لتهوين الكرب عليه وهو يقول:
كن قويا يا رجل، إن ودعتك هذه الإبنة فقد وهبك الله بنات أخريات غيرها، صبرا .. وارفق بحالك.
كان – رحمه الله – يحاول التخفيف عن أبي بأي شكل، فقد سبق وذاق مر الكأس الذي يتذوقه والدي أمام عينيه بفقدانه لإبنة في عمر الزهور، وهو يعرف جيدا ماذا يعني أن تضيع من يديك إبنة حتى ولو كان لديك شعب من البنات، حيث تظل لكل بنت مكانتها في قلب والديها، إذ لكل واحدة مميزاتها وفضائلها التي من الصعب أن تتكرر في أخواتها وإن تعددن، وهذه نعمة حباها الله تعالى لعباده وأكرمهم بها، حتى كانت آية من آيات إعجازه سبحانه وتعالى. وهل تستوي أصابع اليد وإن تشابهت ؟
كانت كلمات الأستاذ إبراهيمي لوالدي حفظه الله في زوايا المقبرة مؤازرة ومشجعة على تجاوز صلابة المصاب الجلل، وهذا نبل منه وتعبير إنساني صادق مفعم بالإيجابية وطيب الفعل وعمق المواساة جزاه الله خيرا.
فيما يخصني، عرفت الأستاذ الفاضل أحمد بن المفضل إبراهيمي تلميذة بثانوية وادي المخازن بمدينة القصر الكبير، حيث كان يشغل منصب ناظر عام بالمؤسسة، وأشهد الله تعالى أني لم أر منه إلا خيرا طول مدة تمدرسي، بل كنت وأخواتي البنات عزيزات عليه من منطلق معرفته المسبقة بوالدنا الكريم من جهة، ولحسن أخلاقنا وتربيتنا من جهة ثانية وهذه حقيقة لا تخفى على أحد ممن يعرفوننا حق المعرفة، ولا مجال لأن أدعيها أبدا.
غادرت المؤسسة التعليمية المذكورة وتركته مديرا بها، انشغلت بمتابعة دراستي الجامعية خارج القصر الكبير وانقطعت عني أخبار كل الأساتذة والأطر التربوية الذين عرفتهم، مرت سنوات وسنوات فجمعتني الصدف من جديد ببعض الوجوه الطيبة التي درستني، إلى أن فاجأني والدي الكريم مرة بتحية وسلام موجهة لي من الأستاذ القدير إبراهيمي، طبعا إسم الرجل منقوش لدي في الذاكرة ولم أنسه ولن أنسه.
تذكرته فورا، ومع تكرار توصلي بتحياته وسلامه – رحمه الله – عن طريق والدي رعاه الله، وجدتني مرة أسأل أبي: أين تلتقي بالأستاذ إبراهيمي ألاحظ أنك تلتقيه باستمرار ؟ أجابني أبي ضاحكا: لقد أصبح جارا لنا، إنه يقطن معنا في نفس الحي، ونصلي سويا كالعادة بمسجد التجزئة.
أسعدني الخبر كثيرا، وبعد مضي أسابيع قررت أن أوقع نسخة من كتابي ” مكاشفات” وأرسلها مع والدي إلى بيته هدية مني إليه، وعربون محبة واحترام وتقدير لشخصه الكريم. استقبل أستاذي الراحل هديتي بغبطة وسرور عظيمين، ودعا لي دعاء طيبا بظهر الغيب وشكرني على حسن صنيعي معه.
دارت الأيام، وكتب الله لي لقاء ميدانيا به في إحدى الندوات الثقافية التي حل فيها ابنه البروفسور عز الدين إبراهيمي ضيفا متحدثا عن خطورة الوباء الفتاك كورونا. في ختام الندوة، تقدمت للسلام على أستاذي إبراهيمي، ملامحه لم تتغير لكن ثمة تغيرات بفعل عوامل الزمن التي تسري علينا جميعا.
تأثرت كثيرا لهذا اللقاء واغرورقت عيناي بالدموع، وهذا يحصل معي كثيرا كلما التقيت بأناس أكن لهم المحبة والتقدير بعد طول انقطاع صلة وبعد. قدمني أبي إليه بحكم أنه لم يرني منذ كنت تلميذة بالثانوية،اعتلت وجهه فرحة زادته ضياء، فعبر لي – رحمة الله عليه – عن فخره واعتزازه بي، ودعا لي كثيرا بالخير فأنهينا اللقاء بصورة تذكارية التقطتها لنا عدسة الإعلامي الزميل الأستاذ محمد كماشين شافاه الله وعافاه.
وفاة الأستاذ أحمد إبراهيمي كانت مفاجئة جدا لي مثل غيري، نزلت علي كالصاعقة، وما عسانا نفعل أمام قدر الله سوى الرضا بقضائه وحكمه، والحمد لله رب العالمين أولا وأخيرا.
لقد ودعنا إنسانا مؤمنا كان عنوانا للصبر على البلاء، وودعنا إطارا تربويا أخلص في عمله فاستحق التبجيل والتعظيم، وودعنا طيبا ترك لدى كل من عايشه عن قرب أثرا جميلا وذكرى حسنة يترحم بها على روحه الزكية العطرة.
فاللهم ارحم أستاذنا أحمد إبراهيمي، واغفر له واعف عنه وعافه، وأكرم يا رب نزله ووسع مدخله، وعامله بما أنت أهله وهو الضيف الذي نزل بك يا خير منزول به، اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأبدله دارا خيرا من داره، واحشره في عبادك الصالحين المتقين الأبرار، واجعلنا وإياه من الفائزين بالجنة آمين.