يشكل رمضان فرصة ثمينة للعبد ليراجع حساباته مع نفسه، ويتفقد علاقته بربه ويقيس درجات الطاعة والعصيان لأوامره ونواهيه وما إذا كان يمشي خطوات نحو الفلاح أم الهلاك، علما أن هذا الشهر الكريم يضرب لنا موعدا سنويا، حيث يأتي ويرحل ثم يعود مجددا ويذهب، وبين قدومه ورحيله تعيش أرواح وتموت أخرى، يتوب ناس ويتمادى في الغي ناس، يفيق عباد من الغفلة ويستحلي آخرون ملذات الدنيا وينغمسون فيها أكثر.
جميعنا نهفو إلى الجنة، وأيما عبد وضع في خيار بين دخول الجنة ودخول الجحيم اختار دخول الجنة دون تردد، غير أن الحياة الدنيا – وهي التي في حقيقتها مجرد فانية زائلة – علمتنا أن لا نجاح ولا فوز بدون عمل، ومن يرغب في بلوغ منى عليه أن يشتغل ويجد ويكد ويتعب ويشقى لتحقيقه، فكيف الحال بمطمح عظيم إسمه الجنة ؟
لقد شرع رمضان للصيام، وليس الهدف المنشود من الشهر الفضيل الصوم عن الأكل والشرب والشهوات فقط، بل إن الهدف يتسع ليشمل إتيان السلوكات غير المحببة التي تأكل حسنات المرء كما تأكل النار التبن، ومن ذلك الغيبة والنميمة والإقبال على المنكرات بشتى أنواعها.
ففي هذا الشهر العظيم أنزل القرآن الكريم هدى للناس وموعظة، ولم يتحقق ذلك عبثا، إنما ليستنير الناس طريقهم ويدركوا جلال رمضان وقيمته السامية التي لا تضاهيها قيمة في الكون، فينصرفوا عن سوء ما ألفوه من أفعال سيئة، ويصححوا عقيدتهم ويتقربوا أكثر إلى الله عز وجل بالطاعات، عساها تمحو ما اقترفوه من ذنوب ومعاصي سابقة لا ينفع الرجوع إليها بعد التوبة وطلب المغفرة والعفو.
إن القرآن الكريم مليء بآيات المغقرة والوعيد، وبكلمات التبشير والإنذار، فمن فعل فحشا واستغفر الله وقرر صادقا عدم العودة وجد الله غفورا رحيما، ومن خشي الله واتقاه سرا وعلانية كان – سبحانه وتعالى – في صفه وكان له نعم المعين والسند في الدنيا والآخرة. أما من تظاهر بالحسنى وباطنه يفور فسقا ومجونا وعهرا وبعدا عما أحله الله، فلا نفاق مع الخالق سبحانه، وهو المطلع على كل النوايا والخبايا والأسرار من قبل حتى أن تخرج للوجود، وهؤلاء القوم – المنافقون – توعدهم الله سبحانه وتعالى بعذاب شديد، وجعل لهم مقعدا بالدرك الأسفل من النار، فلا يحاول إنسي أن يلعب مع الخالق ولو مزاحا.
ربما بعض الناس هم متفوقون وناجحون في خداع غيرهم من البشر، يراؤون ويمنعون الماعون، تخالهم تقاة وهم للفجور رؤساء ورعاة، وهل يعتقدون أنفسهم نجحوا وتفوقوا فعلا أم هم عند الله من الخاسرين؟
رمضان وقفة .. من اغتنمها لإحقاق الحق وإزهاق الباطل فاز، من صامه إيمانا واحتسابا أفلح، من قرأ كتاب الله وتدبره تدبيرا أدرك ما فاته ولحق مالم يفته، وما أبعد حياتنا المعاصرة عما أوصانا به الله عز وجل في الفرقان العظيم !!
إننا نعيش في واد، وما دعينا إليه وطولبنا به واد آخر، باسم التحضر والتقدم استبحنا كل شيء، بعنا الغالي بالرخيص، تسابقنا لكسب رضا سراب إسمه ” الدنيا “، لهثنا خلف بريقها المزيف، نسينا أن حياتنا القادمة هي الأبقى والأخلد، وأن ما وعدنا به الله تعالى هو الأصل، والأصل دوما يرتبط بالحقيقة وما دونه مجرد أكاذيب تمني النفس وتفرحها هنيهة قبل أن تبكيها زمانا وتوقظها على كوابيس مزعجة صادمة.
رمضان فرصة .. ولا عزاء للمنافقين والضالين، لا فلاح للحربائيين المتلونين بألوان المناسبات والمواقف، لا نجاة لمن سلكوا طريق المكر ليحظوا بالجنة، فقد مكر الله قبلهم وهو خير الماكرين، ولا يظلم ربك أحدا وهو العادل المنصف.