يقر جل العقلاء بأن الدنيا دار عبور، دار فناء ونهاية حتمية لكل الأرواح رغم ما يزينها من مباهج ومفاتن وشكليات خداعة، فلا الفرح فيها يدوم، ولا الأحزان فيها تستمر، ولا الفقر فيها عيب، ولا الغنى فيها مجد، كل يمشي بقدر الله وحكمه وإذنه، وقابل للتغيير في كل لحظة.
الدنيا خلقت للجميع
تأخذ العزة بعض الناس ويظنون أن ما أوجده الله تعالى بأرضه إنما خلق لهم وحدهم، وخصهم به دون غيرهم من بني البشر، فيطغون ويتجبرون ويستعلون في الأرض ويعيثون فسادا، يبطشون بما حولهم كما يحلو لهم، يتصرفون بغرابة شديدة تتوافق مع ما أفتى به هواهم ومزاجهم الشخصي، ضاربين عرض الحائط كل الحواجز والموانع التي من شأنها أن تقف سدا منيعا في وجه غطرستهم.
من ملك الأموال منهم حسب نفسه ملك الدنيا بما فيها، اغتر ونفش ريشه كالطاووس ونظر لبقية الناس نظرات ازدراء، ومن ملك السلطة ازداد استكبارا ونهج نهج فرعون واجتهد اجتهادا في أن يذل الناس ويذيقهم ألوان الظلم والعذاب. لقد نسي هؤلاء أنهم في امتحان، وان الذي بين أيديهم من ثروات وسلطة هو اختبار رباني، اختبار لدرجات إيمانهم ولتقواهم ولوعيهم بحقيقة الدنيا الزائلة.
خلقت الدنيا للجميع وجعلها الخالق سبحانه شاسعة فسيحة تتسع للكل، وزع فيها الأرزاق كما يشاء والأنصبة مثلما أراد ويريد، لم يجعل – سبحانه جل جلاله – رزق أحد بيد أحد سواه، ولا منح رخصة لجنس بشر بأن يعبث في أرضه أو يستسيد في كونه، جعل الناس سواسية وفضل بينهم في الأرزاق لحكمة يعلم بها سبحانه وتعالى، وإذا كان جنون العظمة قد استشرى اليوم في مجتمعاتنا بشكل فظيع فإنما يدل ذلك على مرض عضال غزا العقول والنفوس، فارتفع بها لمستويات إبليس اللعين الذي أمره الله عز وجل بالسجود فابى بدعوى أنه العظيم والفريد المتفرد، وتوعد الخلق موازاة بذلك بالضلال والغواية كردة فعل منه يستزيد بها استكبارا، ويعبر بها عن مواصلة رفضه الطاعة لأمر رب العالمين.
لا للبلطجة وتخويف الناس
أن يتصور المرء نفسه الأجدر بالحياة فوق الأرض، ولا يعتبر بوجود غيره بل ويرى من حوله من الناس مجرد طفيليات مزعجة يجوز فيها التنكيل والتقتيل والإساءة وسلبهم حقوقهم هو انحدار شديد نحو الأسفل، وإعلان سافر عن الجبروت، وتغييب للغاية المثلى من العيش القويم والحياة المشتركة المستقرة، وفي المقابل هو إيقاظ للأحقاد والضغائن، وتوسيع للهوة بين شرائح المجتمع المختلفة، وأي استعمال للبلطجة والعنف بهدف التخويف والانتقام واستعباد الناس هو تخلف وجهل وتقهقر إلى الوراء، من شأنه أن يعود بالحياة إلى أدراج السيبة والفوضى ويقضي على كل ما تم الاشتغال عليه لعقود من أجل التخلص من إرهاصاته وتداعياته السلبية المؤسفة.
الدنيا لم تكتب باسم أحد
اليقين أن الدنيا لم تكتب باسم أحد من البشر كي ينتقص هذا من قيمة ذاك، أو يعتبره مجرد كائن بشري من درجة سفلى ويمنح لنفسه بدون موجب حق الدرجة العليا في العيش، من منطلق عبثي أساسه حب الذات المبالغ فيه الممزوج بقلة الحياء وضعف تقوى الله إن لم نقل انعدامه كليا. ما أوجد الله تعالى الأرض ليستحوذ على خيراتها البعض في شراهة ونهم ويتركون البعض الآخر يتنازعون فيما بينهم لاقتسام ما تبقى عنهم من فتات، ما خلق الله عز وجل الكون ليكون بيد فئة تحرم غيرها من النعم بشتى السبل وتستمتع هي وحدها، ما سلم سبحانه المفاتيح لأحد لنرى هذا الكم المهول من الاستبداد والمن في العطاء وادعاء الإشفاق على المعوزين الذين لولا شيوع الإثراء بلا سبب في صفوف لصوص المال العام ما بلغوا عتبات الفقر والبؤس الشديد، وقد صدق الخليفة العباسي عمر بن عبد العزيز حين قال : ” ما ظهر الفقير إلا من تفريط الغني”.
الدنيا لم تكتب باسم أحد ولا دامت أوتدوم لأحد، الكل إلى زوال والدائرة تدور، المناصب زائلة، والسلط زائلة، والترف زائل… الأرض لله، والأرزاق باختلاف صنوفها هي بيد الله، كل المخلوقات تفتقر إلى الله، تحتاج إلى رحمته وفضله وكرمه وجوده، ومن له رأي معاكس فليتدبر ساعات الفواجع ولحظات المواجع وأوقات العسر التي لا يستثنى منها أحد، والتي لا ينفع في مواجهتها سوى مناجاة الله الواحد الأحد، والتبتل واستعطافه وطلبه أن ينشر رحمته ولطفه على البلاد والعباد، ولنا في الواقع العديد والعديد من الكوارث والأوبئة والأمراض التي وقف البشر عاجزا أمامها فلم يفد في الخلاص منها سوى التضرع لله عز وجل فقط.
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حقٌّ على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه) رواه البخاري.