سجل سيداتنا الخالدات لايحصره إسم، غني بأسماء نساء فاضلات بصمتهن يستحيل أن تمحى، ومرورهن بالحياة الدنيا من الصعب تجاهله والاستهانة به، سيما إذا كان رب العالمين احتفى بهن وخلد ذكرهن في كتابه العزيز.
سيدتنا الخالدة الذكر اليوم هي مريم بنت عمران التي جعل الله سبحانه وتعالى لها سورة باسمها في القرآن الكريم ( سورة مريم)، وهي المشهورة ب ” مريم العذراء ” و ب ” الصديقة ” وب ” أم المسيح عيسى” عليه السلام.
ذكرت مريم بنت عمران في القرآن الكريم عدة مرات بصرف النظر عن السور القرآنية التي حملت إسمها، وذكرت في السنة النبوية الشريفة أيضا، إنها سيدة مشهود لها بالعفة والطهر والنقاء، اصطفاها الله تعالى على نساء العالمين، وجعل منها معجزة ربانية تجسدت في حملها من غير زوج بابنها عيسى.
ولدت مريم يتيمة، فقد توفي والدها عمران وهي مازالت في بطن أمها حنة بنت فاقوذا، فكفلها زوج خالتها نبي الله زكرياء، وكان هذا فضلا ورحمة من الله عز وجل بمريم، حيث رعاها زكرياء، فكان بيتها المسجد، وحياتها الخلوة فيه، وكان الطعام يأتيها من الغيب، ومتى زارها النبي زكرياء وجد عندها رزقا فتعجب من الأمر.
عاشت مريم بنت عمران مدة طويلة منذورة تقيم في المحراب، تذكر الله تعالى وتعبده وتصلي وتصوم إلى أن بدأت الملائكة تكلمها باصطفاء من الله عز وجل، فنزل جبريل عليها في هيئة رجل وهي معتكفة تعبد الله تعالى، وبشرها بالمسيح إبنا لها فخافت منه.
بعد أن ظهر حمل مريم، خرجت من محرابها في بيت المقدس إلى مكان تختفي فيه عن الأعين، فجاءها المخاض إلى جذع النخلة وهي وحيدة، وضعت حملها دون مرافق أو مساعد، اجتمعت كل الهموم والمصاعب عليها وهي ذات مقام عال من الإيمان والتقوى، إنه اصطفاء من الله أراد به تحقيق معجزة، فأنطق الله تعالى وليد مريم ” عيسى “، وكان أول ما نطق به أن تنظر أمه مريم تحتها لتجد عين ماء جارية، وتنظر لأعلى لتجد في النخل رطبا، وهذه كلها معجزات من رب العالمين.
وبالعودة إلى كتاب الله عز وجل، نجد أن إسم مريم ذكر في سورة التحريم ولم يذكر في سورة الأنبياء، والسبب أن السياق في سورة الأنبياء كان في ذكر الأنبياء : إبراهيم ولوط وموسى وزكرياء ويحيى، وقول الله عز وجل في سورة النبياء : ” والتي أحصنت فرجها” دون التصريح باسمها كونها ليست نبية،بينما تم ذكر اسمها في سورة التحريم لأن السياق كان في ذكر النساء، ومنهن: امرأة فرعون وامرأة لوط وامرأة نوح، واسم مريم إنما ذكر من باب المدح.
عندما أنجبت مريم بنت عمران ابنها عيسى حملته فورا إلى قومها، فأنكروا عليها، فلما سمعت إنكارهم وقولهم أشارت إلى عيسى بأن يكلمهم، فخاطبه زكرياء عليه السلام قائلا: انطق بحجتك إن كنت أمرت بها.
يروى أن عيسى عليه السلام حين سمع كلامهم وإنكارهم اتكأ على يساره، وترك الرضاع وأقبل عليهم، فلما كلمهم صدقوه وعلموا براءة مريم عليها السلام، وكانت تلك أول وآخر مرة يتكلم فيها إذ لم يفعل إلا لما بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان.
هاجرت مريم بعيسى إلى مصر فتربى فيها، ولما علم ملك اليهود بوجود الوليد المبارك خاف على عرشه وثروته وأرسل جنوده ليقتلوه، كان كيد اليهود لعيسى عظيما، غير أنهم كلما حاولوا قتله نجاه الله تعالى من بطشهم، وألقى شبهه على واحد من تلاميذه الخائنين يدعى يهودا الإسخريوطي، هذا الأخير الذي أخذه اليهود وصلبوه حيا ظنا منهم أنهم قد صلبوا عيسى، بينما رفع الله تعالى المسيح إليه في السماء، قال اليهود ما قالوا، فأنزل الله عيسى من السماء إلى أمه مريم وقد كانت تبكي عليه، فقال لها المسيح : ” إن الله رفعني إليه ولم يصبني إلا الخير، وأمرها فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض رسلا عن الله، ثم رفعه الله تعالى من جديد إليه وتفرق الحواريون، وكان بين رفع عيسى ومولد النبي صلى الله عليه وسلم 545 سنة تقريبا.
تميزت مريم بنت عمران بكونها الوحيدة التي حملت وولدت وهي عذراء، وهي معجزة إلهية تذكر البشر بأن الخالق جل وعلا واحد وهو من خلق أول البشر آدم، كما تميزت هذه الصديقة بكونها الوحيدة التي خصصت لها سورة باسمها في القرآن الكريم إلى جانب ذكرها في عدة مواضع بكتاب الله.
توفيت مريم بنت عمران بعد رفع ابنها عيسى إلى السماء بمدة خمس سنوات، حيث كان عمرها آنذاك 35 سنة .