لا أذكر أن والدي في صباي أخذني إلى مجالس أدبية ثقافية وفكرية طبعتها الميوعة والتفاهة وقلة الحياء، كنت كلما رافقته – في صغري – لحضور نشاط ثقافي فني إبداعي أشعر أنني ذاهبة لمكان له وقاره وجلاله ومنزلته الرفيعة، ما كنت أغادر إلا والشموخ يملأ أعماقي، وعقلي الصغير قد تغذى بقيم نبيلة، ونهل من أخلاق طيبة طابت بها المجالس واللقاءات الفكرية المتنورة المنعقدة بالمدينة.
ما كنت أفقه جيدا معنى الثقافة والفكر وقتها لحداثة سني، لكني كنت أستشف أشياء جميلة وألمس الجدية في كل ما يدور حولي، من تناول المواضيع، واختيار الضيوف واستقطابهم … كنت أجلس وأنصت بنركيز، وأطلق عيناي تتفحص مستوى الترتيب والتنظيم وانتقاء الكلمات، وأنا أسجل بذاكرتي الفتية لحظات ما كنت أتخيل أني سأفتقد رونقها مع الوقت في كبري، وقد تسيدت البشاعة الساحة، وأفرش الاستهتار ظلاله إلى أن قضى على كل ذي طعم جيد نظيف، وكل ذي نكهة أصيلة أصلية لا مزورة يطبعها التقليد والتشويه والانحطاط.
كان والدي يحبب إلي مجال الثقافة والفكر والإبداع بدون أن يحس، كان يحدثني بعفوية عن رموز أدبية وفكرية رائدة زارت المدينة، كنت أشعر بالفخر والاعتزاز بانتمائي لمدينة قصدها صناديد الأدب والثقافة والفكر من مختلف البلاد العربية والأوروبية. فرحتي كانت بريئة، وعشقي للقصر الكبير كان أشد براءة، ما خلت يوما أن هذه الأحاسيس ستتبدل، وما حسبت عجلة الزمان تدور وتتغير، لتقف بي على التقيض الذي يبعث على الغثيان والتقيؤ ويدعو إلى الاشمئزاز.
عذرا أبي .. كبرت ووجدت نفسي في الساحة، لكنها ليست الساحة التي فتحت عيني عليها، ولا هي بتلك الجدية التي رويتني أنت وهي من رحيقها، فالثقافة والإبداع في مدينتي طغى عليهما تحريك أعضاء الجسم وأساليب الفحش، والأدب بمدينتي شابه قلة الأدب، فلم يبق للفكر سوى أن ينأى بنفسه عن ملوثات نقائه عساه يحظى بإزهار آخر في عالم آخر أطهر .