استراحة محارب أم انكسار كاتب حالم؟
كبار الكتاب ممن قرأت لهم وعليهم لم يكونوا بالضرورة كبارا في السن أو المنصب ولكنهم كانوا كبارا في العطاء وكبارا في المواقف وكبارا في الريادية لتدشينهم أراض بكر كانوا هم فاتحيها. فمنهم من كان قدره من التعليم يسيرا كمصطفى محمود العقاد، ومنهم من لم يتلق تعليما البتة كعنترة بن شداد، ومنهم من لم تكن له جنسية كعبد الرحمان منيف، ومنهم من لم تكن له لغة أم كفرانز كافكا وإبراهيم الكوني، ومنهم من لم تكن له مهنة تضمن له عيشة كريمة كإدغار آلن بو الذي ماتت زوجته أمام عينيه من الجوع قبل أن يتبعها هو بعد ذلك …
كبار الكتاب الذين عرفتهم لم يكبروا في عيني ووجداني ومخيلتي بسلطة المنصب أو هيبة النسب أو مجرد كبر السن ما دامت هذه الصفات لا سند ثقافي لها وما دامت تموت بمجرد ما يوارى صاحبها الثرى. لذلك، حين دخلت عالم الكتابة، كان في بالي صور هؤلاء الكتاب ومكانتهم فكان يصغر في عيني كل من يخالف شيمهم وعطاءهم ويكبر في عيني كل من اعاد إنتاج كبرهم وجلالهم. وكم خاب ظني حينما واجهت قبائل من الكتاب والشعراء ما أنزل الله بها من سلطان. وهذه القبائل ثلاث: قبائل “النعيميين” وقبائل “العبازفة” وقبائل “اليساسفة”.
كان أمرا صادما أن أعرف، في مرحلة مبكرة من حياتي الإبداعية، أن ثمة قبيلة من الكتاب تضمن موطئ قدم لها بين الكتاب الحقيقيين من خلال شرط العلاقات العامة: العلاقات بفعل الأستاذية في الجامعة أو بفعل العمل الحزبي بقطاعاته وقواعده أو بفعل المنصب الإعلامي الذي “يقايض” نشر المواد المرسلة للصحيفة ب”تكبير” صورة الصحفي الناشر و”التطبيل” له… والمشكلة هي أن هؤلاء “الكبار” يؤمنون بشكل مضحك ب”استقلالية الأدب” بينما هم يربطون بين منصبهم وبين إنتاجهم عبر سحابة “العلاقات”. هذه الفئة من “الكبار” سميتها قبيلة “النعيميين” لأنهم يكبرون ب”النعم” التي يغدقونها على من يكبرون باسمهم وعلى حسابهم.
النوع المضحك/المبكي الثاني هو نوع “العبازفة”: هؤلاء “الكبار” الذين من يتخوفون من “الناشئة الأدبية” ومن “الأدباء الشباب” بالتخفي وراء الخوف على مستقبل الكتابة في البلاد. إنها رائحة الخلود في الكرسي القادمة من مجال السياسة في البلاد. إنها عملية قتل مقلوبة: فعوض قتل الابن للاب، يقوم هنا الأب بقتل الابن لقاء الخلود في الكرسي في فترة ما بعد الموت…
أما أسوأ أنواع الكتاب ممن عاينتهم على الإطلاق فهم الفئة الثالثة، “اليساسفة” أو “النظراء” من بني جيلي ممن يعتقدون بأن أي نجاح أحققه يكون على حسابهم وأنه لا مستقبل لهم وسط الزحام وأن عليهم قتل الأخ، سيرا على نهج “إخوة يوسف” لضمان الرضى الوهمي والاستئثار بالنجاح المزعوم وادعاء الإبداع والموهبة والعبقرية…
في نهاية القرن التاسع عشر، فرويد وضع اليد على “عقدة” سماها “عقدة أوديب” وفسر بها نمو الشخصية لدى الإنسان كما طور بها علاقات ومناهج تحليل قوامها توق الابن للحرية والتحرر يمر عبر إزاحة الاب من طريقه. وتبعه في ذلك رواد الفكر والنقد ممن قتلوا الأب في مجالات الإنتاج الرمزي: موت الإنسان، موت المؤلف، موت الزعيم… لكن، الأمم التي هدفها غير “الحرية” و”التحرر”، “عقدها” مختلفة. فهي، عوض أن تكون سلطة الأب هي العائق أمام انطلاقتها، فهي ترى في “حظوة الأخ” بالنجاح دليلا على فشلها فتسعى لتصفيته. أو هي ترى في نجاح “الابن” دليلا على ضياع حياتها فتروم قتله. بدل “قتل الأب”، في مجتمعاتنا، نحن نقتل “الابن” و”الأخ”.
—-
(يتبع)