يصر الحاقدون أن لا يتركوا غيرهم بسلام، ويجتهدون في توجيه الإنتقادات المزعجة الحاطة من قيمة الأطراف المستهدفة بغرض الإهانة وتعكير صفو نجاحها وتميزها، يقسمون أن يظلوا وراءهم يهدمون كل ما يبنون، يكسرون كل ما يصلحون، يعيبون كل ما ينجزون، وأقسم رب العالمين قبلهم أن الحق حق والباطل باطل ولابد للحق أن ينتصر .
” الحقد الإجتماعي” ظاهرة إجتماعية استشرت بشكل فظيع، فبعدما كانت النيات سليمة والقلوب صافية والنفوس بريئة صار كل شيء للنقيض تماما . نظرة بسيطة خاطفة إلى الأمس كافية بأن تكشف عن المفارقات الكبيرة بين إنسان البارحة وإنسان اليوم، صحيح أن الشر دائما موجود وملازم لحياة البشر، وصحيح أيضا أن صفات الطهر والنقاء نسبية في الإنسان ومرتبطة جدا بعدة عوامل منها الأخلاقية والتربوية والظروف العامة الشخصية والموضوعية التي أطرت حياة الإنسان في زمان ما ومكان ما، إلا أن الحقيقة تقول ان الطبيعة حافظت على توازنها وبقيت وفية لتراتبية فصولها الأربعة ولتعاقب ليلها مع نهارها، في حين باع الإنسان ذمته وفرط في ثوابته وفضل الثراء غير المشروع على الغنى الحلال وآثر نفسه على كل النفوس فطغى وتجبر وتكبر .
في السابق، كانت الدروب والأحياء تعج بقاطنيها وأبواب البيوت منفتحة على أبواب البيوت الأخرى، يتشاركون الأفراح والأحزان، يتقاسمون الحلو والمر واليد واحدة في وقت الشدة، الجميع حزانى لمكروه أصاب فردا أو أفرادا، سعداء لنجاح أو مناسبة سارة تغمر دارا مجاورة لهم، لامغبون في وقت الفرحة ولا شامت في وقت القرح والإستثناء قليل جدا .
عرس البيت الواحد تدبره بيوت كثيرة، توزع النساء الأدوار فيما بينهن على مستوى التنظيف والترتيب والطهي والعجن وتحضير مائدة الطعام التي يجتمعن حولها في لهو ودعابة ومرح، بينما تسند باقي الأمور الخارجية للرجال الذين لايدخرون جهدا في تقديم يد العون وتقريب كل بعيد محتاج إليه في تنافس شريف وأجواء يملأها السرور والحبور .. نفس الإلتفاف يكون حاضرا في ظروف المرض والعزاء والمحن، فلا يشعر إنسان بالغربة أو القهر أو الذل بقدر ما يشعر بالحماسة والإعتزاز والفخر .
بالعودة إلى واقعنا الحالي نلمس اختلافا كبيرا جدا، فالبسمة التي كان يلقيها الناس في وجوه بعضهم البعض في صدق وعفوية وتعبير عما تكنه الروح من محبة وشوق واحترام خفت لونها وطبعها الإصفرار، تحولت براءتها وتلقائيتها إلى شر متقد بالعيون، حتى إذا ما صادفت احدهم بالطريق رماك بنظرات ثاقبة تقرأ من خلفها الغل والحقد والضغينة، ليس بالضرورة أن يكون بينك وبينه سابق خصام أو عداوة، فقد تكون لاتعرفه نهائيا ومع ذلك يكرهك، ربما لأنه يرى أنك في نعمة يفتقدها هو، أو نجاح عجز عن تحقيقه هو، أو سمعة طيبة استعصى عليه بلوغها، أو مظهر تمناه ولم يكن له نصيب فيه، أو استقرار لم ينعم به، مما أجج نيران السخط والتذمر بداخله فأصبح بأحقاده يضيع على الناس مصالح ويجر إليهم مهالك .
إن أكثر ما يطغى حاليا في الساحة بمختلف تعدداتها هو الحقد، برغم أن لاأحد ينفق على الآخر أو يملك مفاتيح رزقه، وبرغم من أن لافضل لأحد على غيره في شيء حتى وإن ادعى ذلك، فالله تعالى هو الذي يدبر شؤونه في الكون وهو المعطي والمانع، والناس باختلاف أجناسهم وألوانهم يسعون في أرضه ويبذلون جهودا لإثبات ذواتهم وفق ما يملكون من قدرات، والحقد وإن انتشر فهو لا يأكل إلا صاحبه، والكراهية وإن عمت فهي لن تؤتي أكلا طيبا بقدر ما هي ترفع من مستوى الحروب والتطاحنات، ولعل ما يجري بالعالم العربي في الوقت الراهن خير دليل .
بمجتمعاتنا .. هناك من يحشد أكبر عدد من المتعاطفين بطرق احتيالية لينفث شروره وينتقم من شخص أو أشخاص هو مختلف معهم، يبدأ بالشر ويختفي مقحما المتعاطفين تاركا إياهم في مواجهة مع الخصم، يتفرج من بعيد حتى إذا ما استدعت الفرصة تدخله، لم يتردد وعبر عن حقده الدفين تحت رعاية مسانديه . وهناك من يتوارى خلف أسماء مستعارة متعددة ويشرع في تصويب سهامه ويرمي بانتقاداته وسمومه القاتلة . وهناك من يظهر أمامك بصورة ملاك يحب لك الخير ويصفق لك غير أنه سرعان ما تكتشف ما يضمره في جوفه لك من غل فاق بكثير ما يحمله العدو بداخله ..
فمتى تتوقف القلوب عن الأحقاد وتعود المحبة إلى موطنها الطبيعي ؟