تصف كثير من المصادر التاريخية مدينة القصر الكبير بأنها مرجة الأولياء ولصالحين، وهي مهد للتقاة والمجاهدين، ومحج للفقهاء والعلماء والأدباء والمتصوفين، والمدينة ملتقى لطلاب العلم والمعرفة على امتداد الزمن والوجود، تربته الخصبة حقل للنبت والزرع، ومهد للعلم والدرس، فقد أثمرت هذه الأرض الطيبة مئات الرجال، وعشرات النساء من أهل الفكر والعلم، والفقه والأدب والفن والتصوف، من ذوي النبوغ في مختلف العلوم وفنون القول. تتزاحم الأسماء وتتدافع في ذاكرتي لتعلن عن نفسها، وحضورها وتميزها في هذا المجال أو ذاك، إلا أن منطق تكافؤ الفرص يفرض لا يسمح لي بالحديث إلا عن بعض نساء القصر الكبير، أما الرجال فقد نالوا حظا وفيرا من الاهتمام، وتسليط الأضواء.
كثير من نساء القصر قد ساهمن منذ زمن بعيد في إثراء الحركة الفكرية والإبداعية، ولو من وراء الحجب والستائر، ومن وراء ثقب الباب، وأخريات تخطين قيود المجتمع، وموانع الإقصاء، وأعلن عن نفوسهن، وأفصحن عن أسمائهن، وأبلين البلاء الحسن في الأدب، والفنون والعلوم، والوعظ والإرشاد،نذكر منهن على الخصوص من تميزن في الفقه وعلوم الدين: الفقيهة عزيزة الأزرق أم الأستاذ عمر الديوري، الفقيهة خديجة التكموتي، الفقيهة أم كلثوم العلمي أم الأديب الأستاذ المهدي الصيقل، الفقيهة خديجة المصباحي جدة الأستاذ والشاعر والإعلامي محمد عدة، الفقيهة السيدة شريفة بوسلهام بوحيى أم الأستاذة أمينة الغيلاني، والأستاذة الفقيهة حفيظة المجول أخت الأديب المحامي المهدي المجول. الأستاذة والعالمة الجليلة حفيظة المجول صوت صادق من تلك الأصوات النسوية الفاعلة والمتفاعلة مع دواليب الإنتاج الفكري، والبحث العلمي، والتوجيه الديني، وبفضل اجتهادها في علوم الدين، وتشبعها بقيم الحنيفية السمحاء، والسنة المحمدية الرشيدة، تبوأت مكانة رفيعة بين علماء وعالمات الدين، وحفظة القرآن الكريم، ورواد التجويد، والقائمين والقائمات على دروس في الوعظ والإرشاد، بمدينة طنجة العلم، وهي من أنشط أعضاء المجلس العلمي بهذه المدينة.
وكما نعلم أن الثمار الطيبة هي حتما تجنى من شجرة طيبة، وأن الشجرة المثمرة تمتح جذورها من تربة خصبة، وأرض مباركة، وأن سلامة الدوحة هي نتيجة لرعاية الأسرة بحسن التربية والتوجيه، في أولى مراحل العمر، وأثناء فترة الطفولة، ذلك يفضي بنا إلى فضاء أسرة الأستاذة الفاضلة حفيظة المجول، فالأب السيد امحمد بن أحمد المجول كان رجلا شريف النسب والحسب، يرجع نسبهم إلى الولي الصالح الشريف المجول الذي يوجد ضريحه بمدينة القصر الكبير بحي المجولين قرب الجامع السعيد، معروفا لدى سكان المدينة بحسن السلوك، والورع والتقوى، امتهن التجارة، كان نموذجا للصدق والأمانة والقناعة، والنبل والتواصل، وكنت أعرفه عن قرب بسبب علاقة الصداقة التي كانت تربطه بوالدي الفقيه محمد الموذن الحميموني، وصديقه وقريبه السيد أحمد قدامة، لذا جاز لي أن أقول: وكأني به يجعل من التجارة مهنة لجني الحسنات، ومرتعا لطيب الخيرات، عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون”، ونظرا لشرف نسبه واستقامة خلقه، وعلو شأنه بين الأهالي أطلقت بلدية القصر الكبير اسمه على أحد أحياء المدينة: “المجولين”، نسبة إلى أسرة أب الفاضلة حفيظة المجول، هذه الأسرة التي أنجبت كذلك الأستاذ المهدي المجول، الذي يعد من أكبر المثقفين والأدباء، وأنبل السياسيين والمحامين.
فالأستاذة حفيظة ولدت 1947 بمدينة القصر الكبير، ونظرا لوعي والدها الاجتماعي والحضاري المتميز، وعلى غير عادة أغلب الأسر المحافظة أدخلها الكتاب القرآني، لتتعلم القراءة والكتابة، وتحفظ كتاب الله، وهي في الثالثة من عمرها، حيث استطاعت وهي صغيرة السن حفظ خمسة أحزاب من القرآن الكريم على يد الفقيه القطب محمد الجباري، ثم التحقت بالتعليم الابتدائي سنة.1953 بالمدرسة الأهلية، التي كان يديرها السيد أحمد الجباري الذي تولى نظارة الأوقاف بالمدينة.
وموازاة مع الدروس النظامية كانت تدرس بمنزل الفقيه أحمد الخباز ألفية ابن مالك، ومتن الجرومية، ونظرا لفطنتها وذكائها، وشغفها بحب المعرفة اجتازت امتحان الشهادة الابتدائية، والالتحاق بنجاح وامتياز خلال الموسم الدراسي 1958/1959/م، لتلتحق بالمعهد المحمدي، وتظهر عليها في هذه المرحلة الثانوية كذلك مظاهر النبوغ ومؤشراته، حيث كانت دائما ضمن الطليعة في مقدمة المتفوقين والمتفوقات من التلاميذ، الشيء الذي ضمن لها النجاح في امتحان البروفي بكل يسر واستحقاق، وتحظى بالتوجيه إلى شعبة العلوم التجريبية، لتنتقل هذه المرة خارج مدينة القصر الكبير، وبعيدا عن الأهل، لتدرس وتقيم بثانوية جابر بن حيان بمدينة تطوان، وقد توجت هذه المرحلة بعد ثلاث سنوات من الكد والتحصيل بنجاحها في شهادة الباكالوريا، يونيو من سنة 1965م. ونظرا لتفوقها الدراسي، ومستواها المعرفي الجيد، تم اختيارها ضمن نخبة من الطلبة المتفوقين على المستوى الوطني من طرف وزارة التربية الوطنية، ومنحهم منحة لدراسة الطب بإسبانيا، غير أن الأب لم يتحمل فراق ابنته، فصرفت النظر عن الطب، وعن الدراسة خارج الوطن، والتحقت بالمدرسة العليا للأساتذة بمدينة الرباط، وفي سنة 1968 تخرجت منها، وعينت أستاذة بالمعهد الديني بالقصر الكبير، حيث قضت به سنتين تدرس المواد العلمية بكفاءة عالية واقتدار. في سنة 1969 تزوجت الأستاذة أحد رجال السلطة – المهدي الصحراوي، من أهل البلد- يشتغل خارج مدينة القصر الكبير، فكانت مضطرة لمصاحبته، فطلبت من وزارة التربية الوطنية الترخيص لها بالاستفادة من الإيداع الإداري، والتوقف عن التدريس لمدة سنتين، فكان لها ما أرادت، غير أن هذا الترخيص كان نقطة تحول في حياة الأستاذة حفيظة الوظيفية، حيث آثرت الاهتمام بأسرتها الصغيرة، وغادرت عن طواعية سلك التعليم، ولما استقر بها مركب الحياة بمرفأ مدينة البوغاز سنة 1986 شدها الحنين إلى رحاب العلم والذكر، وحلقات الدرس والتدريس، فانجذبت بالقوة والفعل إلى مجالس العلوم الفقهية،
وانخرطت بشغف وبفعالية في برامج الوعظ والإرشاد، بعد أن حظيت بتزكية المجلس العلمي لمدينة طنجة في تجويد القرآن برواية ورش عن نافع، فٌأقبلت بحماس كبير على تدريس قواعد التجويد، ومادة العقيدة، وفقه السيرة النبوية الشريفة لكثير من نساء وفتيات طنجة، وأصيلة وتطوان، كما تقوم بصفتها نشيطة في الخلية النسوية لشؤون المرأة والأسرة، بإلقاء دروس دينية، والمشاركة في ندوات داخل المساجد، والمراكز التربوية والاجتماعية، فحظيت بكثير من التقدير والامتنان، وحفظتها الملائكة بأردية النجاح والتوفيق. وتقديرا لفيض علمها، وسعيها المبرور إلى رحاب بيوت الله، مدرسة وواعظة، ومرشدة، قد منحها المجلس العلمي لمدينة طنجة شهادة تقديرية، واحتفاء بشخصها الكريم، واعترافا بمساهماتها في التربية الدينية، نظم المجلس العلمي على شرفها حفلا تكريميا – سنة 2009، كما سبق تكريمها بمناسبة فوزها بجائزة محمد السادس في حفظ القرآن الكريم،بالإضافة إلى توشيحها بشهادة تقدير من طرف المجلس العلمي لمدينة طنجة.
هذه لمحة قصيرة عن مسيرة طويلة لإحدى عالمات القصر الكبير، ونسائه المؤثرات في صيرورة المجتمع تأثيرا إيجابيا، والمساهمات في التنمية الاجتماعية والعلمية، واللائي رصعن هامة القصر الكبير بشهادات اعتراف وتقدير وامتنان، كما يسجل أبناء المدينة اسم “حفيظة المجول” في سجل النوابغ والنابغات الذين أنجبتهم مدينة العلم والأدب والفن والتصوف.