العزيز الأعز أ. د. محمد أنقار
لا أصدق أن هذه آخر رسالة إليك، بعد أن تعودنا على تبادل الرسائل الورقية والإلكترونية والمكالمات الهاتفية شبه اليومية خلال عقود طويلة. وأتذكر عزيزي، أنك جعلت من بعضها شهادة في شخصي المتواضع بمناسبة تكريمي من لدن رابطة الإبداع الثقافي بالقصر الكبير، مكلفا كريمتك الدكتورة سعاد لتلقيها نيابة عنك، إذ أبى وفاؤك ونبلك وكرم روحك إلا أن تشارك في التكريم رغم الظروف الصعبة التي كنت تمر بها في صمت ومعاناة؟
العزيز محمد أنقار
لست أدري من أين أبدأ هذه الرسالة / الشهادة في حق شخصيتك الاستثنائية التي تختصر قيم جيل بأكمله، فماذا أتْرك وماذا أذكر؟ إنه نصف قرن من صداقة لم ينقطع التواصل فيها إلا لماما. أو كما عبرت بدقة واستيعاب في شهادتك قائلا بمناسبة تكريمي من قبل مؤسسة البوكيلي إبداع وتواصل في القنيطرة: ((تلك شهادة موجزة في حق واحد من أصدقاء العمر الدكتور مصطفى يعلى. أقول موجزة لأن ذكرياتي معه طويلة وممتدة تحتاج إلى كتاب كي يجمعها. ذكريات في القنيطرة، والرباط، والدار البيضاء، وتطوان، وفاس. ذكريات الشباب والكهولة والشيخوخة. ذكريات التعلم والتعليم الثانوي والجامعي. ذكريات الأزمات المادية وأيام السّتر. ذكريات الفنون والحب والسفر. ذكريات القراءة والإبداع.
وأعترف أنني لم أفكر في تسجيل كل التفاصيل لأننا ما زلنا نعيشها في لقاء يكاد يكون يوميا عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني. إني أخاف إن جلست من أجل تسجيلها أن تطير وتنتفي متعتها))(1).
وإنني العزيز محمد، إذ أفكر في طبيعة هذه التوأمة بين روحينا ومزاجينا وذوقينا ورؤيتينا للحياة، فلا أجد أبلغَ مما قلته عنها في شهادتك تلك ((صادفتْ تجربة صداقتنا أننا كنا جميعا في ريعان الشباب، نواجه صعوبات الدنيا بالنكتة والمغامرات، ونعالج بالبوح والانفتاح بعض العقد التي جرَرْناها معنا من مرحلة الطفولة.
كما كنا نستمتع أيضا بتقاسم هموم الثقافة ونبحث عما هو مشترك بيننا من اهتمامات أدبية وفنية. ومما لاحظته في هذا المضمار التشابهَ الكبيرَ بين سمات القصر الكبير من حيث جاء يعلى وحارة “باريو مالقة” التطوانية التي جئت منها. وإضافة إلى القرب النسبي بين المدينتين كانتا كذلك خاضعتين للاستعمار الإسباني فيما مضى. ثم هناك الطوابع الشعبية السائدة في الموضعين. والنتيجة اتساقُ لغة الحوار النفسي والأدبي القائم فيما بيننا وتشابهُ مصطلحاتها ومراميها. كان يعلى يحدثني عن سينما ومسرح “بنيطو برث كالدوس: بالقصر الكبير كأنه يحدثني عن سينما “فيكتوريا” في حارة “باريو مالقة”. وعندما يتحدث عن كانطيفلاس أو جون واين أو سارة مونطييل أستحضر في نفس الآن وجوها لي بها سابق معرفة. وقل الأمر نفسه عن التهامي الوزاني، ومحمد الخضر الريسوني، وعبد الله العمراني، وبلاثكو إيبانيث وبيكر، ولوركا، وغيرهم من الكتاب المغاربة والإسبان))(2).
لهذا سأحاول أيها الصديق الطيب، أن أتغلب على هذا الزخم من عمر صداقتنا المديدة، بالاقتصار على لملمة بعض مما اتصفتَ به من حساسية سلوكية راقية، وتمتعتَ به من موهبة فنية إبداعية، وما تحليتَ به من موسوعية ثقافية ثرية؟
فلطالما كنتُ في عدد من المواقف أقارن بينك وبين الصديق محمد الخمار الكنوني المأسوف على رحيله المبكر، إذ كنتُ أجدك مثله تملك قرني استشعار نفسيين، يجعلانك دوما تراعي في تعاملك مع الآخرين مشاعرهم بحساسية مفرطة وتواضع سليقي جم، خشية أن تكون سببا في إحراجهم أو توتيرهم بله إغضابَهم، حتى ولو كان ذلك على حساب راحتك ومعاناتك الداخلية من خذلان أو استفزاز أومضايقة تُخمِد أثرها بتوتر داخلي قاس من غير أن تشعر المعنيين بالخذلان والاستفزاز والمضايقة بما سببوه لك من معاناة.
ونظرا لإنسانيتك الراقية، لم تكن في هذا السلوك الاجتماعي النادر طيلة عمرك، تقيم وزنا لكل الاعتبارات في علاقاتك الإنسانية بالآخرين وما أكثرهم، سواء كانوا أصدقاء وزملاء وطلبة، أم أصدقاءَ الطفولة والدرب والدراسة بحيك الأثير باريو مالقة، بغض النظر عن حيثياتهم العلمية والعملية ومقاماتهم الاجتماعية، وعما بينك وبينهم من مسافة ثقافية واسعة. وفي ارتباط بهذه القيمة السلوكية الممتازة، كنتَ أكثر بَرورا بوالديك كريما مع أسرتك بل ومع كل عائلتك. وفي هذا السياق، لن أنسى إجهاشك بالبكاء خلال مناقشتنا لإحدى الأطروحات في هذه الكلية، لأن تدخلك قادك إلى ذكر وفاة والديك رحمهما الله في يوم واحد. وذلك لكونك عشت حياتك متشبعا بأنبل المشاعر، في تشبث نادر بممارسة إنسانيتك في منتهى الصدق مع الذات ومع الآخرين.
عزيزي محمد
ربما كنتُ من أكثر الناس معرفة بحقيقة ما كان يمثله الفن والإبداع في حياتك. كانا بمثابة النسغ الجاري في دمك، وما كان يمكن أن تتنفس دونهما قراءة ووعيا وإنتاجا. ومن هنا شرعت مبكرا تنشر قصصك القصيرة الناضجة مثل قصة (الزلزال) الجيدة، في الصحافة، وأنت ما تزال طالبا بالجامعة. والكثيرون لا يعرفون أنك كنت مولعا بالموسيقى الكلاسيكية ومدمنا على مشاهدة السينما بوعي فني ومعرفي غزير، وأيضا بالتشكيل معرفة وممارسة، فأنت من أنجز صور واجهة عدد من الكتب، من بينها كتابي ( السرد المغربي بيبليوغرافية متخصصة 1930 ـ 1980).
وحتى حين انقطعت عشرين سنة عن الكتابة الإبداعية، متملصا بلباقة من إلحاحي المستمر على أن تكتب، كان ذلك خارجا عن رغبتك، لكونك انشغلت مكرها بالبحث الجامعي وإعداد دبلوم الدراسات العليا ودكتوراه الدولة، بمسؤولية تؤمن بالمبدإ القائل: إن البحث الأكاديمي إما أن تمنحه نفسك كليا أو أن تتركه كليا، واستشعارا منك كذلك بأنك حتى لو حاولت الجمع بين الأمرين فسيكون على حساب أحدهما.
ولأن الإبداع هو نسغ حياتك، فإنك حين عدت إلى الكتابة الإبداعية، عدت أكثر نضجا وخصوبة، لكونك لم تتوقف عن إثراء معرفتك السردية وتعهد موهبتك الواعدة، وتعميق وعيك الجمالي، حتى في مرحلة انقطاعك عن الكتابة. وفعلا تتابعت مجموعاتك القصصية ورواياتك المدهشة، التي لاقت إعجابا وإقبالا لدى المتلقي، وترحيبا خاصا من مثقفي مدينتك الأثيرة تطوان، دفع عددا من كتابها لمعالجة نفس الفضاء المحلي التطواني الذي اهتممت به في أعمالك.
ولعلي لا أكشف سرا إذا قلت إن الفضل في تميزك الإبداعي، يعود إلى موهبتك المتجذرة في شخصيتك الأدبية أولا، وإلى أخذ النفس بكل جدية واعتناء ومراجعة، تحت دافع الحس بالمسؤولية ثانيا. وأذكر في هذا الصدد مرجعية يوميتك التي حرصت عليها سنين طويلة دون فتور، إذ لم تتخل دائما عن عادتك في تسجيل كل تفاصيل أحداث يومك على مذكرة خاصة، تعود إليها كلما دفعك موضوع قصصك أو رواياتك للاستنجاد بها.
وهكذا تميز إبداعك بدقة اختيار الموضوعات والمواقف، والإمساك بالتفاصيل اليومية الصغيرة الموحية، وتأني المعالجة النفاذة، وتوظيف اللغة المأنوسة المنسابة والمعبرة معجما وأسلوبا، والقدرة على التقاط ولمس أدق نبضات المشاعر المرهفة، خاصة ما تعلق منها بزمن جميل منفلت، في ابتعاد عن أي حذلقة مفتعلة أو تمحل شكلاني بدعوى التجريب. وفي الإبداع كما في حياتك، كنت تكبر في أعين الجميع يوما عن يوم، لما تمتعتَ به من بساطة وتواضع، رغم امتلاكك لأكثر من سبب يبرر تعاليك وانتفاخ ذاتك. وإنّ أبلغ مثال يعضُضُ هذه الحقيقة، كونك لتواضعك وعفويتك، ما كنت تتحرج من إشراك أقرب المقربين من أصدقائك في الاطلاع على مخطوطات أعمالك، منتظرا منهم مدك باقتراحاتهم.
وما زلت أذكر بعد أن قرأت مخطوطة روايتك (المصري)، أنني اقترحت من بين ما اقترحت عليك، تغيير العنوان من (المصري) إلى (التطواني)، انطلاقا من هيمنة الموضوع التطواني على الرواية بكل مؤثثاتها وطبيعة شخوصها وعتاقة فضاءاتها. لكن ذوقك الراقي ووجهة نظرك النفاذة فضلت العنوان الأول. وقد تأكد لي حسن اختيارك، حين توالت أعمالك (زمن عبد الحليم، البحث عن فريد الأطرش، يامسافر وحدك)، مؤشرة على ترسخ الهوى المصري في شخصيتك الأدبية.
الأعز محمد
تُرى ماذا أجتزئ من إحداثيات المسار العلمي؟ هل أبدأ بدراستنا في شهادة استكمال الدروس، ثم إعدادنا معا لرسالتيْنا وأطروحتينا، وخاصة بالنسبة لاختيار موضوعاتها، تحت دافع الاهتمام بالأدب المغربي حصرا، والشعور بغناه والتبرم من إهمال المشارقة له في المرحلة، مع ما أبديناه من صرامة خلال مناقشة ما كنا ننجزه من أبواب وفصول، بغض النظر عن علاقة الصداقة؟، أم أتذكر استغراقَنا المتعِب المرير لكن اللذيذ، بين رفوف المكتبة العامة في تطوان، وزياراتنا لمكتبة المرحوم الطريس، واستفادتنا من مكتبة معهد مولاي المهدي، ومرابطتنا بمكتبة المرحوم حنانة؟، أم أستدعي مدى الانتشاء بفوزنا بمجالسة المرحومين الفقيه محمد داود ومحمد الجحرة، حول ما كنا في حاجة إلى معرفته عن طبيعة المرحلة المدروسة والحركة الثقافية في تطوان عهد الحماية؟.
طبعا يصعب علي هنا مثلك أن أفصل كل ذلك، وأكتفي بتسجيل ما عاينته فيك من جلد في البحث وأمانة علمية وإحساس بالمسؤولية وغيرها من صفات الباحث الحقيقي، مع حرص شديد على التسلح بأدوات البحث منهجا وتوثيقا ولغة علمية موضوعية. وقد انعكس كل هذا على ممارستك البحث والتأطير الجامعيين بكفاءة عالية، أعطت أكلها فيما نشرته من إصدارات ذات قيمة نقدية عالية، وفي تخريج أطر وباحثين في مستوى ما كنت تبديه من تنويه وفخر بهم، كما لو كان الأمر يتعلق بأولادك.
صديق العمر محمد أنقار
بينما أكتب إليك هذه الرسالة، يمر في ذاكرتي شريط طويل، أوله في القنيطرة أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، أيام الفتوة والشباب، بذكرياته في الثانوية، وفي منزلينا، وفي شوارع ومقاهي المدينة، وفي شاطئ مهدية، وبحيرة سيدي بوغابة، صحبة باقي الشلة الصديقين أ. د. محمد السولامي والأستاذ محمد دامون والأستاذ المكي المرابط رحمه الله. وآخره في تطوان بلقاءاتنا اليومية مع كؤوس الشاي المنعنع والباسطيلي كما كنت تسميه بلهجتك التطوانية المحببة، في مقاهى الفدانين القديم والجديد، وكذا بجولاتنا في العيون والنيارين والطرنكات والمصلة والملاح والمصدع وباب العقلة والغرسة الكبيرة والباريو، وجلساتنا المتأملة الهادئة في محرابك الصوفي بقرية (الزينات)، وغيرها من الأماكن المحملة بمختلف ذكرياتك الحلوة والمرة في تطوان العراقة والثقافة والحضارة.
وبعد، صديقي أ. د. محمد أنقار
لقد فاجأتَنا برحيلك أيما مفاجأة. خسرتك تطوان، وخسرك وسطها الثقافي والعلمي والإبداعي، وخسرك الأدب المغربي والعربي، وخسرك أصدقاؤك، وقبل الجميع عائلتك. لكن رزئي فيك لا يقل وجعا، فبعد كل ما عشناه معا سنوات طويلة، وبعد أن تعودت منذ عقود كلما جئت تطوان كان أول ما أقوم به أن أكلمك هاتفيا، لنتفق على لقاءاتنا اليومية الممتعة؛ أبعد كل ذلك وغيره أفتقدك نهائيا؟. يالخسارتي، فأنا لا أتصور الحمامة البيضاء دون محمد أنقار.
أفلا يحق لي عزيزَ الأعزاء، أن أعترف بأنني أشعر بعدك بيتم حقيقي أو أنني صرت أمشي على رجل واحدة؟.
إن ما يعزيني أيها الصديق الاستثنائي، كون حياتُك مرت نقية معطاء كريمة راضية. فهنيئا لك بما تركته من صدقة جارية غنية علما وأدبا، وطوباك بما خلفته من صدى طيب في نفوس كل من عرفك عن قرب أو بعد، وسلاما لروحك الطاهرة في جنة الخلد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) مجلة “مجرة”، ع. 18، [د. ت.]، ص. 51.
2) المرجع نفسه، ص. 48 ـ 49.