يحتفي العالم بالمرأة في شهر مارس من كل سنة، وفي هذا الشهر يتذكر كل فرد شخصية ارتبط بها وجدانيا، أو كان لها تأثير في حياته، أو ساهمت في توجيهه الوجهة الحسنة، أو نجحت في أن تكون مثالا يحتذى به، وقدوة للجيل الصاعد بأخلاقها وحسن أدائها لدورها ومهامها التربوية .
حفيظة الطود، اسم غني عن التعريف في الوسط التربوي القصري، امرأة اقترن اسمها بقوة بمدرسة العهد الجديد للبنات بمدينة القصر الكبير، المدرسة التي أنيط بها تربية وتعليم البنات دون الذكور، والتي شكلت الوجهة الرئيسية لكثير من الأسر والعائلات المحافظة وغيرها، والتي كانت تحبذ تعليم بناتها ووضعهن في أيادي أمينة بقيادة امرأة، وتحت أسوار تنتصر للعنصر النسوي وتضيق من مساحة التواجد الذكوري إلا من يشتغل بها معلما ومدرسا.
حفيظة الطود، صوت حنون وإحساس عذب رقيق، سيدة تتحاشى الأضواء، شأنها في ذلك شأن عدد ممن تتلمذت على أيديهم من الأساتذة والمدرسين النبلاء الصادقين في رسالتهم التربوية، ولعل سر عدم عشقي أنا الأخرى للأضواء وحبي الكبير للعمل في الظل، وفي صمت دون بهرجة وتطبيل وتزمير من وسائل الإعلام المختلفة نابع من هؤلاء، من صانعي شخصياتنا من البداية.
فحفيظة الطود وهي تشغل منصب مديرة مدرسة العهد الجديد للبنات بالقصر الكبير، وهبت حياتها لخدمة الشأن التربوي، كانت تناضل من أجل حق الفتيات في التعليم وبلوغهن درجات عليا في سلم العلم والمعرفة مالم يكن هناك عائق صحي أو ما شابهه يحول دون ذلك، وكانت تناضل من أجل إثبات أن البنات مثلهن مثل الذكور، يملكن من الذكاء والقدرة على تحقيق النجاح ما يجعلهن متفوقات ورائدات، وربما في بعض الأحيان تفوقن على الذكور، وهي مهمة ليست بالسهلة، ونحن نعلم طبيعة مجتمعاتنا التي تحضر دوما في صف الذكور وتقصي الإناث.
كانت والدتي ضمن الفوج الأول الذي تزامن والتحاق حفيظة الطود للعمل مديرة بمدرسة العهد الجديد للبنات، ولأنها لم تكمل مسيرتها الدراسية، وتزوجت مبكرا، أنجبتنا وأبت إلا أن نكون تحت إشراف هذه المديرة القديرة، التي وجدتها في انتظارنا بالمدرسة المذكورة، والتي رافقتنا من أول قسم بالمرحلة الإبتدائية إلى غاية تخرجنا على يديها، في اتجاه مرحلة أخرى من مسارنا الدراسي وهي المرحلة الإعدادية.
فتحت عيني كما أخواتي وباقي بنات العائلة على هذه السيدة الراقية، في شكلها وجوهرها، الذي لايخلو من وقار وحشمة واحترام، فلباسها كان مغربيا أنيقا ينم عن التعلق بالأصالة والمحافظة، جلباب وغطاء للرأس ومحفظة يدوية، الكل في تناغم وتناسق، وهي قادمة – حفظها الله تعالى – تخالها حمامة تمشي بخطوات متثاقلة، متزنة وثابتة تجذبك للوقوف لها إجلالا.
لقد كانت الأستاذة حفيظة ذات هيبة، كنا نخاف أن يقع نظرها علينا في وضع لايروقها، كنا نفهم نظراتها، ونتحاشى قدر ما نستطيع أن يصدر منا ما يغضبها، لأن العقاب ينتظرنا، ولا تسامح مع من تتجاوز الحدود.
إذا غاب مدرس من مدرسينا لظروف ما، تحيلنا على مدرس آخر تطلب منه أن يستقبلنا ويقبلنا ضيوفا استثنائيين لديه بالقسم إلى جانب تلامذته، حرصا منها على أن نبقى على تواصل بالدراسة حتى في غياب مدرسينا الحقيقيين المتغيبين لأسباب معينة.
كما أنها حينما كانت لا تجد ما يشغلها بالادارة، وقد أنهت جل مهامها هناك، كانت تقفل باب مكتب إدارتها وتقتادنا في صف تلو الآخر إلى قسمنا لتدرسنا بنفسها، وتعود لمكانها الطبيعي بعدما تنتهي حصتنا المعهودة.
كانت تعلم علم اليقين أن مسؤولية البنات ليست بالهينة، لذلك لم تكن تسمح بتواجدنا بباب المدرسة في غير أوقاتها، ولا تسمح بمغادرتنا وقد سلمنا أولياء أمورنا إليها وانصرفوا لحال سبيلهم قبل العودة لأخذنا من المدرسة في موعد الخروج.
لقد كانت سيدة ذكية عينها على كل كبيرة وصغيرة تدور بمؤسستها التربوية، تتدخل لحل بعض المشاكل التي كانت تنشب من حين لحين بين موظفيها بدبلوماسية، وتستدعي أولياء الأمور إذا لاحظت شيئا ما غير طبيعي في تصرفات البنت المتمدرسة، كتهاونها في أداء واجباتها، أو غيابها المتكرر، أو شيء من هذا القبيل، كان همها الكبير سمعة المدرسة، فكانت تسعى جاهدة لأن تكون مؤسستها التعليمية دائما نظيفة وفي القمة، نظيفة أخلاقيا وسلوكيا وميدانيا أيضا، وكذلك كانت ولله الحمد بفضل جهودها المبذولة أطال الله عمرها.
لن أنسى اليوم الذي ودعتنا فيه، وهي تخاطبنا بصوت شجي كله حنان: ” بناتي .. حان وقت الفراق، أتمنى لكن التوفيق والنجاح في المراحل التعليمية القادمة، سامحنني إن كنت قسوت عليكن يوما، فلم يكن إلا لمصلحتكن”.
حفيظة الطود كانت أما للبنات قبل أن تكون سيدة موظفة تشغل منصب مديرة لمؤسسة تعليمية خاصة بالبنات، لقد اعتبرت أيقونة من أيقونات الإدارة التربوية بمدينة القصر الكبير، والتي غادرتها بالإحالة على التقاعد وهي شامخة، مرفوعة الرأس وقد تخرج على يديها أجيال وأجيال من البنات، كل تؤدي دورها في الحياة اليوم، بدءا من مكانها الطبيعي البيت، وصولا إلى أسمى مراتب العمل وأعلاها.
فلتحي أم البنات حفيظة الطود ومثيلاتها من السيدات اللواتي شرفن الحقل التربوي، وميدان العمل في تشعباته الكثيرة.