دخل العالم عصر التقدم والحضارة من أبوابه الواسعة، وعرف الطب تطورا كبيرا على مختلف المستويات؛ أنشئت مستشفيات وشيدت مصحات، واستفاد الناس من خدماتها بالشكل المطلوب، مقاومين بذلك أخطر الأمراض، متصدين للأدواء الخبيثة بوسائل علاجية متطورة، كثيرا ما أعادت للمرضى المصابين الأمل في العيش، ومنحتهم فرصا جديدة في الحياة .
أمام كل هذه التغيرات المحسوبة لمهنة الطب، ظلت مدينة القصر الكبير محافظة على الوضع القديم، حيث بقيت رهينة مخلفات الاستعمار، رغم رحيل المحتل الأجنبي، لتحتفظ بنفس المبنى في صورة مستشفى مهترئ يزيد المرضى أمراضا، ويضاعف من عذابهم الذي لا يعرف حدودا .
ما فائدة مبنى يحمل اسم مستشفى بالمدينة، الداخل إليه يغادره سريعا – يلملم آلامه ويحمل مرضه – خارجا في اتجاه مجهول ؟
انه الوضع المؤسف الذي تشهده مدينة القصر الكبير، من فترة ليست بالقصيرة، حيث كلما ألم مرض بمواطن يقيم بالمدينة، عانى الأمرين، وذاق من العذاب مالا يطاق ويحتمل، لتزدوج محنته ويتفرع مرضه العضوي إلى آخر نفسي يصعب التخلص منه، لكونه لم يجد طبيبا بالمؤسسة الاستشفائية، يستقبله ليقدم له الاسعافات المطلوبة في استعجال، مخففا الضرر عنه، وأيضا لكونه لم يجد سيارة إسعاف بالمستشفى المعني، تسافر به في الحين خارج المدينة، بحثا عن مستشفى بديل يمكنه التدخل الآني لخفض درجات الخطر.
يقف المواطن القصري المريض وإلى جانبه أهله وأسرته، موقف الحائر الذي لا يعرف له وجهة. المرض لا يستأذن، وهو حالة ملازمة للإنسان عموما، يستحيل أن لا يصيب جسما بشريا، ويستبعد جدا أن يعيش الشخص دون أن يمرض مطلقا، فكثيرا ما يطرق مرض الباب على حين غرة، وبشكل مفاجئ دون أن يكون المرء قد أعد له عدة، فكيف له أن يقصد المصحات الخاصة للتداوي، وهي التي تفرض مبالغ مرتفعة، وتجد فرصتها في الحالات المستعجلة الخطيرة، والتي لا تحتمل الانتظار، مما يعقد الأمر أكثر فأكثر، ويصيب المريض وأهله بالانهيار التام .
في مدينة القصر الكبير، الحوامل حينما يباغتهن المخاض ليلا أو نهارا، يعانين الأمرين، والمصابون بالأمراض المزمنة عند حدوث طارئ يقاسون بشدة، والذين يصابون برضوض أو كسور أو جروح خفيفة أو بليغة، نتيجة حادث تعرضوا له مصادفة أو بفعل فاعل متعمد، يعانون أكثر وأكثر.
إلى أين الوجهة ؟ وأي مستشفى يقصدون للعلاج والتطبيب ؟
غالبية الحالات الوافدة على المستشفى المدني بالقصر الكبير، يتم تحويلها الى مستشفى للا مريم بالعرائش، وإن كان هذا الأخير يتشابه مع سابقه في كل شيء، ويختلف عنه فقط في التسمية، لدرجة أن مواطني مدينة العرائش يحملون نفس معاناة إخوانهم بالقصر الكبير، ويتذمرون من مستشفاهم المدني تماما كما يتذمر القصريون .
أسماء المستفيات موجودة، ومبانيها حاضرة، رغم كل التحفظات عن مرافقها وما يشوبها من عفن ووسخ وقلة معدات وغياب آليات، هذا الغياب الذي لم يستثن حتى الأطر الطبية، التي تغيب بدورها عن مثل هذه المستشفيات المحلية. طبيب واحد على رأس المستشفى كلها، موكول إليه تطبيب ساكنة مدينة بحالها، بمجالها الحضري والقروي، وبمختلف حالاتها المرضية، الخفيفة والثقيلة التي يلزمها وقت للكشف عنها .
المحزن المضحك بالمستشفى المدني بالقصر الكبير، هو تشابك الأدوار وتداخل التخصصات، حيث يختفي الطبيب ويتقمص الممرضون دوره، فتصير أجسام المرضى عرضة للتجارب على أيديهم، وليس مهما أن تخلص هذه التجارب إلى التسبب في اعاقات أو عاهات مستديمة، لأنه بطريقة أو بأخرى سيتم معالجة الوضع بواسطة سبل ترفع المسؤولية عن الفاعلين، بعد أن يدافع بعضهم عن بعض.
وإذا كان الممرضون بالمستشفى يتقمصون دور الطبيب المعالج، فإن للمنظفات نصيب في تقمص دور غيرهم أيضا، حيث تطالعك نساء النظافة بمعاطفهن المكتوب على ظهورها ما يشير الى دورهن الحقيقي بالمستشفى، وهن يباشرن عمليات التمريض وكأنهن ممرضات، مقتحمات ميدانا لا صلة لهن به لا من قريب ولا من بعيد.
لا يلقى المواطن القصري معاملة البشر في المستشفى المدني بالقصر الكبير، انه يعامل كما تعامل الحشرات، بدون أدب، بدون لطف، بدون ابتسام أو تقدير، بدون إسداء خدمات ولو البسيط جدا منها، بدون تقديم اسعافات في أوانها، وإن حالف الحظ أحدا في يوم من الأيام، واستفاد من فحص الطبيب بعد مصادفته بغرفته الخاصة للفحص والعلاج، فإنه سرعان ما يصطدم بعطل الأجهزة الطبية التي تستدعيها حالته، أو بافتقاد مادة أو أكثر من المواد التي يلزم توفرها للتداوي والاستشفاء، ليغادر هذا المواطن في أحسن حالات زياراته للمستشفى المحلي، وهو يلعن اليوم الذي قاده لولوج هذا المستشفى، ويلعن المرض الذي أصابه أو أصاب فردا من أسرته فأجبره على الذهاب إليه، وهو المواطن الذي يقطن في مدينة لا يكترث مسؤولوها بالصحة العامة للمواطنين، ولا يأبهون بحياتهم فيها .
القصر الكبير .. مدينة من دون مستشفى، هذه هي الحقيقة المرة التي نرفعها بأمانة لمن يهمهم الأمر، محليا ووطنيا، نناشدهم التدخل لإنقاذ ساكنة المدينة، لإغاثة مرضاها، لرحمة ضعفائها، وانتشالهم من الموت الذي يحلق فوق سماء المدينة حاصدا عدة أرواح بريئة، كل ذنبها أنها لم تجد أيادي أمينة، وقلوبا رحيمة، ومؤسسة استشفائية تسهر على رعايتهم وتقديم الخدمات الطبية لهم وقت اللزوم، في ظروف إنسانية راقية تليق بمواطنتهم .
القصر الكبير : مدينة من دون مستشفى
فمن ينقذ صحة المواطنين ؟؟