آثر أبو العيال العزلة والانزواء في مكتبه، وانصرف إلى نفض الغبار عن ذخائر الأدب العالمي، فبدأ برائعة سرفانتس «دون كيشوت»، وتوقف طويلا عند أحد فصولها، والذي يدور حول حرب ضروس نشبت بسبب النهيق، ولندع أبا العيال يفصل الحكاية.
….
نجد دون كيشوت، وقد صال وجال، وقهر الفرسان والرجال، ونشر العدالة في كل مجال.
دخل قرية فاسترعى انتباهه رجل ملحاح، يحمل شحنة من السلاح، فسأله عن وجهته بهذا العتاد، فأخبره بأنه يبيعه في المزاد، لأهل قريتين متحاربتين وزاد، إن سبب الحرب النزيفة، يعود إلى قصة طريفة. يحكى أنه كان لزعيم قرية جحش مدلل، يسرح ويمرح ولا يذلل، خرج يوما وفي الرجوع لم ينجح، أكله السبع على الأرجح. لكن الزعيم الكبير، نفخ في النفير، للبحث عن الجحش الأثير، فخرج الولدان والرجال، ومشطوا النجود والجبال، فما وجدوه وما فقدوا الآمال. وجاء مساعد الزعيم النبيه بمشروع مقترح وجيه، رأى بفكره الدقيق، أن الحمير تتعارف بالنهيق، فبدا للأمل بريق، رفع المساعد عقيرته بالنهيق، وتبعه الزعيم الأنيق، وبما أن الناس على دين ملوكهم، فقد تنافس أهل القرية بحلوقهم، بحثا عن جحش رفيقهم.
تفرقوا في كل مكان، ونهقوا في الوديان، وأزعجوا الإنس والجان. وقامت القيامة، والجحش أكله أسامة، وفي العجلة الندامة.
لم تفلح لجنة الحكماء، في حفظ الأعراض والدماء، وحمي للحرب وطيس، وتسلح الناهقون بالمكر والتدليس، واصطاد في الماء العكر إبليس، وألّب على الناهقين أهل التهميس.
ما أشبه الأمس باليوم بالأمس! قبل خمسة قرون شاهد دون كيشوت حرب النهيق، وأبو العيال يشاهد حربا في قرية، العالم اليوم قرية، اشتبك أصحاب النهيق مع كل عابر طريق. كيف لا وقد اتخذ زعيم القرية الجحش شعارا؟ وجاس بعتاده الديار، وأقبر المستضعفين إقبارا.
أكلما أكل أسامة حمارا؟ بعث للناس جيشا جرارا؟
وعلى ذكر أسامة، فهو عند سرفانتيس حيوان باشق، بينما هو عند الزعيم الجديد حليف مارق، بالأمس القريب حقق الخوارق، قهر الحمر وكبكبهم في الخنادق، وقدم له الزعيم الراجمات والصواعق. لكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر، وأصبح الرجل هو الجاحد الناكر، وسار يخبط خبط المجنون العاثر، يفتك بالعدو والأخ والكبير والقاصر.
هذا حق يراد به باطل، فلا يمكن إقناع عاقل، بأنه لكي نعاقب القاتل، نحرق مدنا بالكامل، ونمطر أهلها بالقنابل، ثم ينبعث المطلوب من رماده، ويهب الزعيم بعتاده، فيكون النساء والأطفال من حصاده، ويبقى الفينق كمعتاده. رحم الله أمير الشعراء إذ قال:
كان شعري الغناء في فرح الشر ** ق وكان العزاء في أحزانه
قد قضى الله أن يؤلفنا الجر ** ح وأن نلتقي على أشجانه
كلما أن بالعراق جريح ** لمس الشرق جبنه في عمانه
صحيح أن الإرهاب أزهق الأرواح، واستعمله باسم الانضباط كل سفاح، وسخره باسم الدين كل متشدد ملحاح، فهدموا الأبراج وروعوا السياح، فاستحقوا منا جميعا المقاومة والكفاح. لكن يا أمير القرية، لم تقتل الأنام؟ دون اقتراف ذنوب ولا آثام، ولم توجه إليهم صكوك اتهام. أكلما طاحت صومعة عُلق الحجام؟
من كتابي مقامات زمن غير بديع
وهذه مقامة نشرت أولا في صحيفة الأسبوعية الجديدة عند بداية الألفية الثالثة، إبان اشتداد الحرب على الإرهاب.