قدم الروائي والأديب نجيب محفوظ المرأة في رواية ” ميرامار” في صورة إيجابية من خلال الشخصية المحورية المتمثلة في ( زهرة )، وكذلك من خلال الشخصية الثانوية في الرواية ( علية ) مُدرّسة زهرة، بينما تقوقعت شخصيات نسائية أخرى مر بها الروائي في الجانب السلبي الذي لا يشرف المرأة، أو يرتقي بها إلى أعلى المراتب.
أ ـ الصورة الإيجابية للمرأة في فضاء الرواية
1ـ زهرة: بطلة روائية متمردة
تتكون صورة بطلة رواية ( ميرامار ) زهرة سلامة، من عدد من المظاهر الإيجابية. فهي ترسمها فتاة فلاحة تنحدر من قرية الزيادية بالبحيرة (1 )، لم تعش في الإسكندرية ولكنها زارتها مرارا مع والدها قبل أن يتوفى، حيث كان يجيء برفقتها إلى ماريانا ( صاحبة البنسيون ) حاملا إليها الجبن والزبدة والسمن والدجاج ( 2 ).
ثم تعمد الرواية إلى بسط مخاييل القوة في شخصيتها، فتقدم جزءا من طبيعة حياتها الفلاحية، إذ كانت تستأجر نصف فدان وتزرعه بنفسها، وقد أراد جدها أن يزوجها من عجوز مثله لتخدمه، فهربت (3 )، وقصدت بانسيون ميرامار بالإسكندرية، حيث اشتغلت لدى صاحبته ماريانا خادمة بالبنسيون.
وفي هذا السياق تجري الرواية حوارا يكشف عن مدى قوتها في العمل والتحدي والدفاع عن مكاسبها، على الصورة القوية التالية :
– ” ألم يشق عليك ذلك يا زهرة ؟
– ” كلا، إني قوية بحمد الله، لم يغلبني أحد في المعاملة، لا في الحقل ولا في السوق .
فقال طلبة مرزوق ضاحكا :
– ولكن الرجال يهتمون بأمور أخرى أيضا ؟
فقالت بتحد لطيف :
– ” أكون رجلا عند الضرورة .. ص : 43
وأضيفت إلى وصف شخصية زهرة بالقوة، الإشارة إلى حدة ذكائها، إذ تعلمها ماريانا فتتعلم بسرعة فائقة :
– ” البنت مدهشة يا عامر بك، مدهشة، ذكية وقوية، من مرة واحدة تعرف المطلوب، أنا بختي عال.” ص: 41.
ويفسر مثل هذا الاكتشاف في شخصية زهرة، صفة التمرد المجللة لصورتها القوية. فهي قد أحبت أباها الراحل أكثر من عينيها، أما جدها فما كان يفكر إلا في الانتفاع من ورائها (4 ). لذلك تمردت على التقاليد الرهيبة التي تقيد حريتها، وداست على قداسة الأجداد، وعلى جو القرية المشحون بالعنصرية في حق المرأة، والانتصار للذكورة على الدوام. فهربت، وكان هروبها رفضا لأن تكون زوجة غير حقيقية في الواقع، فهي امرأة ذات أنفة ولا تقبل بالظلم مطلقا .
” قالت بأسف :
– تركت أرضي ..
وإذا بطلبة يقول :
– سيقولون إنك هربت لكيت وكيت ..
حدجته بنظرة غاضبة، واكفهر وجهها كأنما اتخذ من ماء الفيضان بشرة جديدة، وفردت سبابتها والوسطى وهي تقول بخشونة :
– أغرزهما في عين من يتقول علي بالباطل ..” ص/ 44.
إن زهرة لم تسلم لا من الشيوخ ولا من الشباب بالبنسيون، فالعبث في الرواية كما في الواقع لا حدود له، وللشيوخ عبثهم أيضا (5)، فقد تعرضت زهرة لأنواع الإهانات، شأنها في ذلك شأن كل امرأة حينما ترفض الانصياع لأوامر الرجل تلبية لغرائزه :
– ” الفلاح يعيش فلاحا ويموت فلاحا ..” /ص: 48
– ” إنها قطة متوحشة .. ” / ص: 48
– ” تصور .. تريد حضرتها أن تتزوج مني ! “
– ” مجنونة فاجرة !” / ص: 190.
لقد حاول طلبة مرزوق وهو رجل كبير، أكبر من والدها (6) الاستفراد بها في غرفته، حينما طلب منها أن نُدلّكه، الأمر الذي لم تعتد عليه بقريتها، لهذا انتفضت في وجهه، لكونها لم تسمع عن ذلك من قبل، ولنيتها السليمة في دخول حجرته قبل أن تراه منطرحا على وجهه شبه عار (7)، في مشهد أزعجها وضايقها.
وضمنيا، فإن طمع الجميع فيها يضيف إلى صورة زهرة في الرواية، جمالا أصيلا وأنوثة جذابة. فقد توفرت لديها كل مقومات الجمال و الأنوثة، مما جعلها مطمعا لكل من حولها بالبنسيون :
” وجه أسمر لفلاحة مطوقة الرأس والوجه بطرحة سوداء: أصيلة الملامح مؤثرة جدا بنظرة عينيها الحلوة المترقبة “.ص :36 – 35
” ومرت بنا زهرة في طريقها إلى الخارج لأداء واجب من واجباتها، فرأيتها مطوقة الرأس بإشارب أزرق ابتاعته بنقودها، تخطر في جاكتة المدام الرمادية، فاتنة من فاتنات األعشاب الندية والزهور البرية “. ص : 57 – 58.
وهنا تتداخل في صورة شخصية البطلة ملامح الإغراء والقوة. فقد كانت تضطر كل حين إلى الدفاع عن نفسها وصد من يتحرش بها، وكانت تعتز بقوتها وتردد :
“تجدني في وقت الشدة كالرجال ” ص: 59
فقال الرجل :
– إنك ملاكمة جبارة يا زهرة !”. ص : 63
ولهذا السبب، صفعت زهرة ثلاث نزلاء يقيمون بالبنسيون، وهم: طلبة مرزوق، حسني علام، وسرحان البحيري، وقد أقدمت على ذلك دفاعا عن نفسها وعن كرامتها، إنها فلاحة تؤمن بأن الشرف هو العرض والأرض، والحفاظ عليهما هو حفاظ على البقاء، وعلى الحياة الكريمة في الوسط الإجتماعي.
وعند هذه المحطة بالرواية، شرعت صورة زهرة في التطور من وضع إلى وضع جديد. فقد قررت أن تتعلم(8)، وأخبرت ماريانا بالأمر طالبة السماح لها بالتغيب ساعة كل يوم لتتلقى درسا، فرحبت صاحبة البنسيون بالفكرة، بل وشجعتها عليها. وهنا تدخل إلى فضاء الرواية شخصية نسوية أخرى جديدة هي ( علية ) المُدرّسة. فتاة جميلة وريفية هي الأخرى، تقيم مع والديها ولها أخ يعمل بالسعودية.
وكان دافع زهرة لاتخاذ هذا القرار بالتعلم، هو أن تصير مثل باقي البنات اللواتي يملأن الشوارع، وعدم قبولها باستمرار الجهل والأمية في شخصيتها، بل وأيضا من أجل أن تكون في مستوى من نبض قلبها له.
إن صورة زهرة في الرواية قد تغيرت أصباغها مع التحاقها خادمة بالبنسيون، فعلى مستوى شكلها، استبدلت الجلباب القروي الفضفاض بملابس عصرية، واتخذت من مظهرها العام شكلا جديدا( 9)، وقد اتجهت نحو التغيير الجوهري، حين قررت تعلم القراءة والكتابة ثم تعلم مهنة الخياطة بعد ذلك :
– “بعد الكتابة والقراءة سأتعلم مهنة كالخياطة “. ص: 47
ومن ثمة، تأخذ شخصية زهرة في الرواية صورة البطلة المتمردة على كل شيء غير لائق في العلاقات الإجتماعية. فهي حين جاءت شقيقتها مع زوجها إلى البنسيون، لأخذها والعودة بها إلى القرية سترا للفضيحة (10) كان جوابها غاضبا وحادا :
-” أنا حرة ولا شأن لأحد بي”. ص : 70.
ولم تقف زهرة عند هذا الحد، بل واجهت أختها بأن لا أحد لها بعد أبيها الراحل، وأن جدها الذي تحدثها عنه أراد بيعها لا تزويجها، لهذا فهي لن تعود مع أختها إلى القرية، وهو قرارها النهائي :
– ” لن أرجع ولو رجع الأموات “. ص :71
وحين حاول زوج أختها التدخل، تصدت له ومنعته من الكلام، قائلة :
– ” إني أعمل هنا كما يعمل الشرفاء وأعيش من عرق جبيني”. ص :71.
فكانت نتيج هذه الصورة المتشابكة، كون زهرة رغم أنها تحب الأرض والقرية إلا أنها لا تحب الشقاء (11)، خصوصا بعد أن فتنت بالحب والأمل والتعليم والنظافة التي وجدتها جميعا في الإسكندرية بعيدا عن جو القرية.
وربما بسبب تطور صورة شخصيتها على هذا الشكل، امتنعت عن الاقتران ببائع الجرائد محمود أبو العباس، ورفضته بلا تردد وبلا تفكير (12). فطموحها كان يفوق مستواه الإجتماعي. لذلك حين عاتبها عامر وجدي (عجوز نزيل بالبنسيون كان بمثابة الأب الثاني لزهرة ) مفضلا أن تتريث وتفكر في الأمر وتأخذ بالمشاورة، عاتبته لكونه يراها شيئا حقيرا لا يجوز له أن ينظر إلى فوق(13)، لكنه عارض كلامها وحاول أن يوضح لها بأن المسألة كلها أنه رآه زوجا كفئا لها. وهنا كشفت عن رؤيتها للموضوع بحرية، إذ صارحته بأنها ستعيش معه مثل حياة القرية التي هربت منها، لقد سمعته يتحدث إلى صديق له مرة دون أن يراها، وكان يقول: ” إن النساء تختلف في الأوان ولكنها تتفق على حقيقة واحدة، فكل امرأة حيوان لطيف بلا عقل ولا دين، والوسيلة الوحيدة التي تجعل منهن حيوانات أليفة (هي الحذاء” ). ص: 74
وكان هذا الكلام الذي سمعته خفية من محمود أبو العباس، كافيا لرفض الزواج به. فالجانب النفسي في صورة زهرة جعلها تتطلع إلى حياة كريمة ككل امرأة طموح، حياة فيها احترام وتقدير متبادل، فيها حب وعطف وحنان دون أي سلطة للحذاء، ودون تجبر وإقصاء من الطرف الرجل.
إن زهرة تثور في وجه الرجال قليلي الأدب، نزلاء البنسيون الذين يحاولون أذيتها، في حالة صحو أو تحت تأثير سكر طافح، إنهم بنظرها رجال بلا شهامة. ورغم أن العجوز عامر وجدي كان دوما ينصحها بمغادرة البنسيون، لكونه لا يليق بها كامرأة وكبنت طيبة، إلا أنها كانت متمسكة دوما بالبقاء، وترد :
– “بوسعي دائما أن أدافع عن نفسي، وقد فعلت “. ص: 79.
وتقول بعناد :
– “يوجد أرذال في كل مكان، حتى في القرية ! “. / ص: 79.
وهكذا ثارت زهرة في وجه منصور باهي أيضا وهو يعرض نفسه زوجا لها:
– “زهرة.. لعلك تجهلين كم أنك عزيزة عندي.. زهرة.. اقبليني زوجا لك!”. ص: 198.
رفضت الزواج منه لأنها كانت تعلم أنه على علاقة بامرأة أخرى يحبها، وهي لا تقبل أن تسد فراغا أو تستغل لوقت ويتم التخلي عنها، لكونها ببساطة تملك نفسا أبية وذات أنفة.
ولم يكن تمسك زهرة بالبقاء في الإسكندرية أو بالتحديد بالبنسيون نابعا من فراغ، إنما من أجل حياة مغايرة لما عاشته في القرية، حياة صبغتها الحب والتعليم والنظافة والأمل، وقد وقعت في حب سرحان البحيري ( نزيل شاب من نزلاء البنسيون)، كان يلاحقها متى التقاها خارج البنسيون تتبضع وتقوم بواجباتها كخادمة، لم يكن بعد يقيم بالبنسيون، وسيصير نزيلا من نزلائه بعدما أعجب بها :
” فلاحة حلوة، حلوة بكل معنى الكلمة، وها هي تسلب لبي”. ص: 212
لم يكن سرحان البحيري شابا مهذبا وخلوقا يستحق الحب إذا صح التعبير، بل كان شخصا انتهازيا مستهترا مصلحيا ماديا وشهوانيا، تحركه غرائزه ومتى صادف امرأة في طريقه جرى خلفها ليستغلها من كل النواحي، ولم تكن زهرة لتنجو منه ومن مكره وخداعه، خصوصا وقد توفرت فيها عناصر مساعدة له:
” فلاحة .. بعيدة عن منبتها .. غريبة في بنسيون .. غريبة كالكلب الضال الأمين في سعيه وراء صاحب”. ص : “213
وعلى عادة الإنتهازيين والمستهترين، ترك البحيري عشيقته صفية، التي كان يعيش معها عيشة مشتركة، منذ أكثر من عام بعدما ملّها وأراد التغيير (15)، فوجه سهام خبثه إلى زهرة، التي كانت تعتقد أنه يحبها بالفعل، وما كان في الحقيقة يحبها إنما شكلت بالنسبة إليه نزوة عابرة مثل باقي النزوات.
يقول البحيري: ” إني أحب فلاحة . مجرد شهوة كالتي ساقتني إلى صفية في الجنفواز”. ص: 221
بلغت حقارة البحيري درجات قصوى، حين كان يتفحص أجزاء زهرة بعناية وشغف، الشعر والقسمات والقامة (16)، وكان يتحين الفرصة لإطفاء نار شهوته :
“نعم إنها ثمرة ناضجة وما علي إلا أن أقطفها ولكن جسمها بريء فيما يبدو ولا علم لي باستعداداتها . إني أحبها، ولا غنى لي عنها”.
وليستولي على مشاعرها ويمتلك عواطفها همس لها :
– ” ( من أجلك سجنت نفسي في هذه الحجرة .. ) ص : 225
– ” (أحبك . هذا ما أود قوله وال أمله يا زهرة .. ) ص : 226.
لم يكن سرحان البحيري يحب زهرة كما يدعي، فهو لم يكن مقتنعا بها من الأساس :
” جعلت أقول متحسرا : لو كانت من أسرة .. لو كانت على علم أو مال ! .
ولأن زهرة كانت امرأة ذكية، فقد استطاعت أن تدرك هذه الحقيقة المرة :
– ” أنا أحبك ولكنك لا تحبني ..
– ” (إنك تنظر إلي من فوق كالآخرين .. ) ص: 236.
وطبعا كان الحق مع زهرة، فسرحان البحيري كان دوما يتحجج لعدم الزواج منها بحجج واهية، وفي ذات الوقت يطلب منها أن تسكن معه في مسكن خاص دون زواج بعيدا عن أنظار الآخرين. كان يقول إن الزواج سيخلق له مشاكل من ناحية الأسرة ومن ناحية العمل ويهدد مستقبله، فضلا عن أنه سيهدد حياتهما المشتركة (7 ).
وإمعانا في مكره ووقاحته، اقترح البحيري على زهرة الزواج الإسلامي الأصلي كما أسماه، عوض الزواج الشرعي المعهود بين الناس، وذلك بأن يعلن بينه وبينها أنه يقبلها زوجة على سنة الله ورسوله دون شهود، فكان جوابها بالرفض.
2 – علية : شخصة واعية رافضة
جسدت علية في رواية ميرامار الشخصية النسائية الإيجابية الثانية بعد زهرة. فتاة وسيمة وأنيقة وموظفة (18 )، قارن سرحان البحيري بين زهرة وبينها، فوجد في الأولى الفطرة والجمال والفقر والجهل، وفي الثانية الثقافة والأناقة والوظيفة، تمنى لو أن شخصية زهرة في بيئة علية وإمكانياتها حتى تتحقق عناصر الارتباط بها إن كانت هناك نية جادة في الارتباط من الأصل.
بعد رفض زهرة لمقترحات البحيري، غَّير هذا الأخير خطته، وقرر خوض مغامرة جديدة بطلتها هذه المرة “علية” مُدرّسة زهرة. فقد تعرف عليها وقابلها أكثر من مرة، إلى حد أنها دعته إلى زيارة أسرتها، حيث عثر على إغراء جديد تجاهها متمثل في ملكية والديها لعمارة متوسطة بكرموز (19).
لم يكن سرحان البحيري يحب علية، بل كان يقنع نفسه طوال الوقت بأنها فتاة ممتازة تعد بزواج موفق. لهذا اقتحم أبواب أسرتها المحترمة مدفوعا بانفعالات عفوية، ولكن بلا خطة موضوعية أو نية صادقة، وبلا إمكانية مالية مناسبة (20).
كان اتصال علية المنتظم بزهرة يقلق خيال البحيري. فالمُدرّسة لا تعلم أن زهرة قررت التعلم لتكون في مستوى الرجل الذي أحبته وتطمح للزواج منه، وزهرة لا تعلم بالمقابل أن البحيري غير الوجهة صوبها، لذلك نبه علية من أن تطلعها على ما يدور بينهما بحجة أن الأخيرة ثرثارة. وتتدخل الأقدار فتجعل زهرة تراهما معا، مما هيأ الفرصة المواتية لاعتراف علية بكل شيء لزهرة. ولم تجد زهرة ما تنتقم به لكرامتها سوى البصق في وجه الوغد الحقير سرحان البحيري :
– ” ماذا أفعل ؟ .. لا حق لي عليك .. وغد حقير .. غر في ألف داهية ! (ص: 260).
وتطور الموقف إلى حد التشابك بالأيدي، إذ عنف البحيري زهرة فبادلته الضرب والصفع بقوة، حينها جن جنونه فصاح في غضب :
– ” أنا حر .. أتزوج بمن أشاء .. وسأتزوج علية ! ( ص: 261) .
والنتيجة أن ماريانا ( صاحبة البنسيون ) طردت سرحان البحيري من البنسيون، مذكرة إياه أن المكان لم يعرف الهدوء منذ مجيئه، وأنه قلب البنسيون إلى سوق همجية للمعارك وقلة الأدب، وأمرته أن يبحث لنفسه عن مسكن آخر (21).
وانتصارا للقيم النبيلة، وضعت الرواية سرحان البحيري في موقف لا يحسد عليه، ذلك أنه استقبل استقبالا فاترا عند زيارته لأسرة (المُدرّسة) علية محمد، حاول المراوغة والكذب لكنهم لم يمنحوه الفرصة وتجاهلوه ليغادر شقتهم بدون رجعة، فخسر علية وزهرة معا. بل إن الرواية قد أمعنت في عقاب البحيري، حين أنهت حياته نهاية مأساوية، حيث مات مقتولا أو منتحرا كأي شخصية شريرة يجب معاقبتها من طرف المجتمع.
ب – الصورة السلبية للمرأة
على عكس شخصية زهرة ومُدرّسنها علية الرافضتين، اللتين عكستا الصورة الجميلة والإيجابية للمرأة المتحدية في الرواية، فقد حضرت شخصيات نسائية أخرى مثلن الصورة النمطية المكرسة للمرأة، والمتمثلة في كونها كائنا ضعيفا مستسلما، يبيع لحمه ليأكل وينعم بحياة رغدة ويسد احتياجات الحياة اليومية، وأبرزهن في الرواية :
1- صفية بركات
صفية عشيقة البحيري (22)، امرأة ساقطة كما وصفتها زهرة مرة، تعيش عيشة مشتركة مع سرحان البحيري منذ أكثر من عام دون زواج يربطهما، تشتغل بالجنفواز راقصة، فمّلها ولاحق زهرة بالبنسيون، رغم أنها كانت تؤمن له المسكن والمأكل والمشرب مقابل أن يظل بقربها، ولم يكن من السهل عليها تركه يذهب بسهولة، لذلك طاردته وفاجأته بهجومها عليه زاعقة بالبنسيون:
– ” تريد أن تهجرني؟ .. تظنني طفلة أو لعبة ؟! ” / ص : 238.
– “تنهبني وتهرب ! .. أكلتك وشربتك وكسوتك وتريد أن تهرب يا ابن الحرام ! / ص: 239.
تبادلت الضرب مع البحيري، وعندما حاولت زهرة التفرقة بينهما أهانتها، وهو ما لم تقبله منها زهرة فلكمتها واشتبكتا بتبادل الضرب والتعنيف.
2 – دريــة :
زميلة قديمة لمنصور باهي، وكذلك زوجها صديق عزيز لباهي، امرأة وحيدة بلا عمل أو أمل بعد اعتقال زوجها، ضعيفة وتعيسة، خائنة، لم تصن حب زوجها بعد اعتقاله وعادت لحبها القديم، رغم أنها امرأة متعلمة إلا أنها لم تعرف كيف تستغل وقتها وتخرج من دوامتها .
3 – ماريانا :
ماريانا العجوز تندرج هي الأخرى تحت سحابة التردي، ذلك أنها رغم تقدم سنها استمرت في الرذيلة، ولا غيرت دينها (المسيحية ) رغم مكوثها طويلا بالإسكندرية، كما لم تغير سلوكها غير الأخلاقي، بل عادت لعشيقها القديم طلبة مرزوق بعد عودته إلى أحضان البنسيون. ومثل درية وصفية وماريانا، هناك عينة مشابهة من الشخصيات النسائية مرت بهن الرواية مرورا سريعا، لم يكن إلا فاجرات وقوادات وبائعات هوى.
لقد نجح نجيب محفوظ برواية “ميرامار” في حبك معادلة واقع المرأة في المجتمع الشرقي إيجابا وسلبا، حيث قدم صورتين ضديتين لها:
الأولى، إيجابية متصفة بالتمرد والتحدي وفرض الذات، وتجسدها بطلة الرواية “زهرة” أساسا، و”علية” إلى حد ما . فقد رسم المبدع شخصية زهرة الريفية بكل مواصفاتها الأخلاقية والجسدية، مركزا على صفات الرفض والتمرد والتحدي فيها، وبذلك لم يغلبها شيء مهما كانت قوته ومنزلته، محافظة على شرفها ونقائها، مفضلة أن تعيش حياتها وفق ما تطمح إليه هي وتريده، لا وفق ما يملى عليها لتقبله في إذعان وخنوع. بينما تمثل “علية” في هذه الرواية الوجه الثاني للمرأة المتعلمة الواعية، التي لا يمكن أن ينجح مكر بعض الذكور المتهورين في استغفالها.
والثانية، سلبية، تقدم المرأة سلعة تباع وتشترى، ولا تصلح سوى لتلبية رغبات الذكر الجنسية، وهدر شخصيتها تكريسا لتبعيتها واستنزافها وضياعها، كما هو الحال بالنسبة لباقي شخصيات الرواية مثل صفية ودرية وماريانا.
واقع المرأة في المجتمع الذكوري :
إن رواية ميرامار قد كشفت المجتمع الذكوري الذي يهمش المرأة ويهينها ويجعل من جسدها سلعة رخيصة، خصوصا عندما لا يكون للمرأة سند، فتجبرها الظروف لأن تتدبر أمورها بنفسها، حيث تقع فريسة للشخوص والأمكنة، وبلا سابق إشعار تجد نفسها دون رحمة في أحضان من يتهافتون على استغلالها، والاستثمار فيها طالما هي صالحة لذلك، ثم التخلص منها بسرعة، بلا مراعاة لواقعها ومشاعرها فور ثبوت أن لا فائدة مرجوة منها، ولا مصالح خاصة تقضى من ورائها تدر الربح وتجلب المكاسب.
كان هذا حال زهرة مع ماريانا، الأجنبية التي رحبت بزهرة لأول وهلة خادمة بالبنسيون الذي تمتلكه، وكانت تضغط عليها كي ترضي غرائز الزبناء ليبقوا أطول مدة ممكنة بالبنسيون إلى جانب ما تقوم به من واجبات، ممارسة بذلك دور القوادة، مجسدة الشخصية النسائية السلبية في الرواية :
– ” لقد سقط النحس على البنسيون، إني واثقة من ذلك، وعلى زهرة أن تذهب، فلتبحث عن رزقها في مكان آخر ” .
(ص: 274).
لقد رفضت زهرة استغلال جدها لها وهو يريد تزويجها من عجوز مثله، ورفضت بعده استغلال زوج أختها لأرضها، وتولت الأمر بنفسها قبل الهرب، فكيف ستقبل الاستغلال من ماريانا ؟
لم تستسلم زهرة، ولم يهمها قرار ماريانا بإبعادها عن البنسيون، فهي سنكمل رحلتها التي بدأتها في التغيير، وإن كان بعيدا عن البنسيون من غير تراجع عن الغاية والهدف.
” عامر وجدي: – ماذا أعددت للمستقبل؟
قالت وهي ترنو إلى الأرض : ما تزال كالماضي تماما حتى أحقق ما أريد .. (ص: 276 -278).
فالمعادلة هنا تذهب إلى أن المرأة في المجتمع حين يرحل معيلها مثل زهرة، ترحل معه أمانيها وسلامتها من الانتهازيين. فالصورة هنا تعكس حالة المرأة العربية حين تفقد السند، حيث تصير أرضا خصبة للاستغلال، في انتهاز فاجر للظروف الصعبة التي تكبلها.
هكذا تكون زهرة برفضها وتمردها، قد انتصرت على الظلم بأوجهه المختلفة، لم تسمح لأحد بأن يستغلها أو يقلل من قيمتها كامرأة، ثارت في وجه الجهل والفقر، وانساقت وراء طموحها رغم كل العواصف، التي تسقط المرأة تحت تأثيرها غالبا في المجتمع الشرقي.
إن هرم الرواية العربية نجيب محفوظ، كما عودنا في مختلف نصوصه الروائية والقصصية، يضع في رواية (ميرامار ) أصبعه على جراح المرأة الشرقية، وينتصر لقضيتها، ويضم صوته إلى المطالبين بحقوق المرأة العربية،لكن على طريقته السردية اللامباشرة، حيث يكون لتضامنه تأثير نفاذ في ذهنية الرجل الشرقي، عساه يعي فيسلم للمرأة بما تستحقه من ندّية في الحياة.
: هوامش
.رواية ميرامار نجيب محفوظ، مطبوعات مكتبة مصر، دار مصر للطباعة، ص : 36- 1
نفس الرواية، ص :37- 2
نفس الرواية، ص : 40- 3
نفس الرواية، ص: 43- 4
نفس الرواية، ص: 48- 5
نفس الرواية، ص: 47- 6
نفس الرواية، ص:47- 7
نفس الرواية، ص: 64- 8
نفس الرواية، ص: 42- 9
نفس الرواية، ص : 70- 10
نفس الرواية، ص: 72- 11
نفس الرواية، ص:73- 12
نفس الرواية، ص: 74- 13
نفس الرواية، ص: 78- 14
نفس الرواية، ص: 214- 15
نفس الرواية، ص: 222- 16
نفس الرواية، ص: 241- 17
نفس الرواية، ص: 246- 18
نفس الرواية، ص:250- 19
نفس الرواية، ص: 252- 20
نفس الرواية، ص: 261- 21
.نفس الرواية، ص: 126- 22