شمس أشرقت وسطع نورها، رويدا رويدا شرعت في الغروب إلى أن اختفت كليا مع السنين والأعوام المعدودة. فجأة، لم يتبق سوى طيف عبورها بالدنيا، حزنت الأمكنة على رحيلها، وفاضت أعين الحياة بكاء على فراق عروس لم يكتب لها أن تزف في فستان فرح أبيض قبل أن تلف في كفن يحمل نفس اللون إلى قبرها.
كوثر حياتي .. أخيتي التي تصغرني بسنوات، النهر العذب الرقراق من الحب والحنان، الروح الزكية الطيبة المقبلة على الحياة بتقلباتها، التعايش مع الألم والتحمل الكبير لمشاق المعاناة مع المرض، الصبر والاحتساب،الإيمان والرضا، الاستسلام والتفويض الكلي للخالق سبحانه، النصيب النزر من الحضور والغياب الكثيف وكأنها تخبر المحيطين بها أنها لن تعمر طويلا بالدنيا الفانية.
كوثر حياتي .. ذكرى جميلة عطرت وجودي بابتسامتها البريئة، مرشة روت محطاتي الكئيبة بدعواتها الصادقة، صباحها كان يبدأ بالمرور بغرفتي لإلقاء تحية الصباح علي، ومساؤها ينتهي بتوديعي وهي تقصد فراشها للنوم، الانصات للقرآن الكريم عشقها، وترديد الدعاء والعناية بسماع أذان المآذن هوسها. مراقبة المصلين يغادرون المساجد من شرفة البيت بعد كل صلاة كان يسعدها، مناها لو أنها كانت تستطيع النزول لتهنىء كل مصل وتبارك له استجابته لنداء رب العالمين بإقامة الصلاة.
كوثر حياتي .. كان عنوانها الصدق في الكلام إن تحدثت، والنبل في المشاعر والرقي في العواطف، الغش والخداع لا يعرفان الطريق إليها، فلينم أهل الأرض قريري العين وهم يؤمنونها على شيء أو يوصونها بالمحافظة عليه، حب الله والرسول كان ساكنا بفؤادها، والسؤال عن العقاب عقب كل تقصير في واجباتها الدينية فنرة المرض متكرر دائما، ودليل إيمان به عز وجل وخوف منه ومن عذابه جل وعلا.
آه يا أخيتي ويا كوثري كم أتمزق داخليا وأنا أجوب سيرتك وأقف على فقدانك، آه لو تعلمين وجعي من الفراغ الذي تركته، رثى أثرك الطيب كل من رآك وعرفك أو عايشك عن قرب، بكى الجميع لوداعك وهتفوا بصوت شجي واحد :
ماتت الحنونة التي كانت عنا تسأل وتمطرنا بإحساسها الطاهر الشريف.
يا لمرارة العيش بعدك يا كوثر حياتي، يا لخشونة الأنفس وصلابة المشاعر وفظاظة الأفعال، يا زينة كل بيت ونور كل مجلس، يا نبتة تربعت عرش كل القلوب وأزهرت بداخل كل الأفئدة التي عاشرتها يوما من الأيام.
عليك رحمات الله ومغفرته ورضوانه يا كوثر حياتي، يا وجهتي في كل الأوقات بالدعاء، يا قطعة مني تسكن بعيدا وهي لا تبرح مكانها بروحي ووجداني، سلام عليك حين مت وحين تبعثين حية، وموعدنا في الجنان إن شاء الله يا كوثري لنجدد اللقاء ونربط حبل الأخوة من جديد في ألفة وود وخلود بإذن الله الواحد الأحد.
أفرش الله قبرك بفراش من الجنة، وأسكنك فردوسه الأعلى، ورزقك جوار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأكرم نزلك، وكتبك في السبعين ألف الذين يدخلون الجنة دون سابق حساب أو عذاب. سقاك الله من نهر الكوثر يا كوثر حياتي وجمعنا بك في الجنان صحبة النبي الكريم صلوات الله عليه وسلامه. آمين يا رب العالمين.
*كتب النص في القصر الكبير وقدر له أن ينشر من الرباط.