في الموسم الجامعي 2018/ 2019م قرر طلابُ ماستر الكتابة النسائية في المغرب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان تنظيمَ لقاء علمي لتقديم كتابين هما: “الكتابة بالوجدان: دراسات في سرد سعاد الناصر” لفضيلة الدكتور أحمد رزيق، و”غيمات الندى” لأبي الخير الناصري.
اتصل بي العزيز الطالبُ الباحث عبد القدوس التجكاني يخبرني أنه سيتولى قراءة كتابي وتقديمه، فسررتُ بذلك لما أعرفه عنه من جدية في البحث وأخلاق رفيعة. بعد شكره على العناية والاهتمام قلت له: “أرجوك عزيزي عبد القدوس، إذا بدتْ لك ملاحظاتٌ نقدية حول كتابي فلا تتردد في ذكْرها يومَ تقديم الكتاب”. أحس بالحَرَج من هذا الطلب، ولمستُ في كلامه ما يدل على تهيُّب من انتقاد كتاب لأحد أساتذته.
بعد أيام كان تواصلٌ ثانٍ بيننا. حدَّثني عن دلالات العنوان “غيمات الندى”، وذكر لي بيتين أحدهما للمتنبي ورد فيه لفظُ “الغمام”، وثانيهما لجرير ورد فيه اللفظُ “أَنْدى”، مُرجِّحاً وجودَ علاقة دلالية بين عنوان الكتاب وبين معنيي البيتين.
لم أشأ أن أوجّهَه في قراءة العنوان، وآثرتُ أن أدَعَ له حرية البحث، والفهم، والتفسير، والتأويل، وراقني كثيراً سَيْرُه نحو تكوين شخصيته العلمية المستقلة. لكنني جدَّدتُ طلبي السابق له بذكر ما يبدو له من ملاحظات نقدية حول الكتاب، حفزاً له على مزيدٍ من الاستقلالية في القراءة والبحث، وتشجيعا على الارتقاء من وصف المقروء إلى نقده.
ثم حلَّ يومُ تقديم الكتابين. كان ذلك صباح يوم السبت الخامس عشر من يونيو 2019م بقاعة الدكتوراه عبد الله المرابط الترغي بالكلية. افتتح اللقاءَ الأخُ العزيز الدكتور أحمد بوعود بكلمة أشار فيها إلى بعض مقاصد تقديم الكتابين، مبيّنا أن اللقاءَ حلْقةٌ تكوينية للطلاب، يُقدّم فيها اثنان منهم كتابين لأستاذيْن من أساتذتهم.
توسَّط سيدي أحمد بوعود الجلسة. عن يمينه جلس الدكتور أحمد رزيق فالطالب الباحث محمد ازعيطار، وجلس عن يساره كاتب هذه السطور فالطالب الباحث عبد القدوس التجكاني.
قبل بَدْءِ اللقاء همس لي عبد القدوس: “أستاذي، لقد دونتُ ملاحظات نقدية حول الكتاب، لكني لن أذكرها”.
أجبته: “أرجو أن تذكُرَها”.
وحينما أُعطِيَ الكلمةَ تحدث في السياق التأليفي لـ”غيمات الندى”، ثم قدّم نظرة في عنوانه، فتلخيصا لأهم مضامينه، ثم بيانا لبعض مزاياه، فذكرا لملاحظتين نقديتين تخص أولاهما عنوانَ الفصل الثاني للكتاب، وتخص الثانية عبارتين فيه من الناحية اللغوية.
كنتُ مسرورا وأنا أستمع إلى أحد طلابي يستقل بشخصيته العلمية، ويناقشني في أحد كتبي نقاشا علميا ملتزما أدبَ الحوار والاختلاف في الرأي.
وحينما حان دوري للكلام قرأتُ من ورقة أعددتُها لهذه المناسبة، ثم توقفتُ لحظة لأقول مخاطبا عزيزي عبد القدوس: “إنني فخور بك، وسعيدٌ جدا بملاحظاتك، لأنها دليلُ استقلال شخصيةٍ ودليلُ قدرةٍ على تجاوز وصفِ العمل وتلخيص مضامينه إلى إبداء الرأي فيه. ولا ريب في أن استقلال شخصية الطالب هو أحد أهم الغايات التي ينبغي أن يسعى كلُّ تكوين لتحقيقها؛ لأن التربية والتكوين والتعليم ليس من مَهامها صناعة الأشباه والظلال، بل تخريج طلبة وباحثين ذوي شخصياتٍ علمية مستقلة قادرةٍ على الحوار والنقاش وإبداء الرأي الحر.
فما أسعدني وأنا أرى واحدا من طلابي يَسلك طريقا نحو استقلال الشخصية في البحث العلمي!
وما أسعدني وأنا أراه يقدّم كتابي بشخصيته المستقلة التي تحاور وتناقش وتُبدي الرأي المختلف!”.
بعد أيام قليلة اتصل بي العزيز عبد القدوس وقد أحس بالحرَج بعدما لامَهُ اللائمون على ما أبداه من ملاحظات نقدية، وقال كلاما يعتذر به عما كان منه.
فقلت له: “إنني سعيدٌ جدا بملاحظاتك. ودعْني أكاشفك بأمرٍ: إني أرى أن الأستاذ شبيهٌ بالأب في بعض أدواره، إنه كالجسْر الذي يعبُره أبناؤه ليصلوا إلى النجاح المنشود”.
كنتُ أستحضرُ في قولي ذاك ما كتبتُه في إحدى رسائلى إلى والدي رحمه الله تعالى إذ خاطبتُه بالقول: “أنتَ جسرُ التضحيات الذي نعبُره دونَ أن يلتفتَ إلى أناه” [1].
أرسل إليَّ عبد القدوس ما كتبه عن “غيمات الندى”، فنشرتُه بعد إذنه في أحد المواقع الرقمية.
ثم كتبتُ مقالا في مناقشته والرد على ملاحظاته، ونشرتُه في الموقع نفسه، راجيا بهذا الردّ أن أرتقيَ وإياه من مقام النقد إلى مقام السّجال وتلقي الردود والمناقشات بروح التعلُّم التي ينبغي ألا تفارقَ أيَّ مشتغلٍ بالعلم طالباً كان أم أستاذا.
كنتُ أسعى من كتابة ذاك الردّ إلى أن أسيرَ وأخي عبد القدوس خطواتٍ أخرى في طريق الحقيقة العلمية التي ينبغي أن يَرنوَ الجميع لخدمتها واتخاذها مقصد المقاصد وغاية الغايات، وأرجو أني أسهمتُ في تحقيق بعض من تلك المقاصد الجليلة، أو أني أحسنتُ بيانَ المُراد وإيضاح المقصود.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.