انتقلت عدوى التجسس من الفضاء الواقعي إلى العالم الإفتراضي، وبعدما كنا نرى أشخاصا مهووسين بتتبع أخبار الناس الخاصة وهمومهم من باب تنشيط عملية الغيبة والنميمة، وقتل الوقت، وتفريغ العقد النفسية في الواقع، تحول الأمر إلى ما هو إلكتروني عن طريق اعتماد حسابات بشبكات التواصل الإجتماعي، وتفعيلها بغرض البحث والتنقيب عن أشخاص معينين لمعرفة أخبارهم ومتابعة مستجداتهم خفية منهم، ومن دون ترك أي أثر للمرور في أغلب الأحيان.
متابعة خفية مستمرة
يقضي المريض بالتجسس جزءا طويلا من وقته أمام الهاتف الذكي الذي يملكه، أو أمام حاسوبه، وإذا كانت لهذه الأجهزة المتطورة غاياتها الإيجابية ومنافعها التي ترقى بالأداء البشري، فإن هذا الأخير غير معني بها بقدر ما هو معني بالتجسس على أخبار الغير، ومعرفة تفاصيل حياتهم أو أجزاء منها، انطلاقا مما ينشرونه بعفوية من صور وتدوينات على “بروفايلاتهم” الخاصة في تقاسم بريء مع أصدقائهم، لدرجة أنه لا يترك جزئية صغيرة من هذه التفاصيل تضيع أو لا يكون على علم بها، أو فتح نقاش موسع بشأنها في الخفاء صحبة من يتلذذون بمعرفة الأخبار والمعلومات التافهة مثله.
التهكم والنقد اللاذع
يجعل المريض بالتجسس الإلكتروني من منشورات الغير مواد دسمة لحياته اليومية من خلال التعليق عليها وتمحيصها، إذ يستحيل أن يمر يوم دون أن يكون بحوزته الجديد التافه قولا وعملا، هذا التافه الذي لا يراه هو كذلك، بل يراه مهما ومفيدا ومن ليس محيطا به ضاع من حياته الكثير. إنه يستمتع ويظن نفسه يحسن الصنيع، كما أنه يعتقد أنه يثبت حضوره وقوته وذكاءه.
هذا الذكاء الذي يسخره في التهكم والنقد اللاذع للتدوينات والصور، والتي يعطيها تأويلات قد تكون صحيحة أحيانا وقد تنتفي فيها الصحة في الغالب، لكن المهم عنده أنه متلذذ بالسخرية من الغير من منطلق إرواء عطش الغيرة والحسد الذي يأكله من الداخل، أو من منطلق التحرر من عقد عانى منها طويلا ولم يجد لها سبيلا للتفريغ، أو من منطلق البحث عن علاقات وتملق لأطراف تعادي الشخص المتجسس عليه، والتي تكون راغبة هي الأخرى في أن تشفي غليلها سيما إذا تعلق الأمر بأخبار غير سارة كالمرض أو الحوادث أوغيره، حيث يكون المجال مفتوحا أمامهم لخلق إشاعات ونشرها بين الناس، بعد زيادة تفاصيل جاد بها خيالهم الواسع المتسخ، أو بتوجيه مسار تلك المنشورات اتجاهات غير سليمة مع تلفيق بعض التهم الجاهزة انتقاما وانتقاصا من الآخر.
موقع الغير من المتجسسين الإلكترونيين
غالبا لا يكون الشخص على دراية بوجود هؤلاء في خريطة حياتهم، سيما وأنهم يشتغلون في الخفاء وينشطون من وراء ظهره، حيث لا يكتشفهم إلا عن طريق الصدفة، إما عند حدوث مشكلة ما فيكشفون عن حضورهم الخفي بالتعبير عن آرائهم ومواقفهم المثيرة، وإما عند لقاء عابريلمحون فيه بعبارات ومفاتيح كلمات تعبر عن أنهم يتبعون كل صغيرة وكبيرة عنه.
الغريب هو أن المتجسسين الإلكترونيين لايظهرون أي تفاعل سلبي أو إيجابي على صفحات ومواقع الغير، لكنهم في أكثر الحالات يكونون سلبيين في تعاطيهم مع القضايا خلف الظهور، والغيربالتالي لايكون على معرفة بتواجدهم وحتى إن علم لايأبه بهم ولا يكترث، ويدع لهم الفرصة للثرثرة كما يشاؤون ماداموا اختاروا الظلام والاختفاء عن الأنظار كالأشباح.
التجسس الإلكتروني على الغير معضلة إجتماعية أفرزتها الحياة الإلكترونية المعاصرة، حيث تطور الأمر من الجلوس بعتبات البيوت وتناقل أخبار الناس، ومن التنقل من منزل إلى منزل لجمع أسرار الخلق وجعلها مواضيع اليوم مع كل من يلتقونه في الطريق، إلى الجلوس في خشوع وجمود ولوقت طويل مترقبين متحسبين لكل جديد من حياة الناس الخاصة التي لا تفيد في شيء تقدم الأمم والشعوب، ولا تزيد أنفسهم إلا خسرانا وتقهقرا قكريا يدعو للتقزز.