“عند عودته من المؤتمر العربي صرح لنا السيد عمرو موسى بالتصريح التالي…، أو بعد توقيعه على اتفاقية التعاون بين البلدين وفي مؤتمره الصحفي أعلن وزير الخارجية الإسباني…”.
تعابير أصبحت مألوفة في الخطاب العربي، رغم أنها تجسد تعسفا على لغة الضاد، وتقويضا لعناصر الجملة العربية، وتشويها لسلامة الخطاب وبنائه، فالبناء اللغوي أصبح مضطربا، وفقد التعبير البياني تراتبيته وتسلسله، فقد غيب الفاعل وتقدم المفعول به، دون مراعاة لقواعد اللغة وإعرابها
وحضر النعت بدل المنعوت، بلا سبب ولا قرينة، وشاع الخطأ وتوارى الصواب، وقد قيل: خطأ مشهور أحسن من صواب مهجور، ونقول: موقف صائب أفضل من ألف خاطئ، وكلمة حق أرجح من كتاب باطل، فهل وراء هذه الأخطاء التعبيرية خلفية نفسية أو فكرية؟. يستعصي الجواب الدقيق، ومع ذلك نحاول البحث عن مبرر افتراضي، ومقاربة لهذه الإشكالية اللغوية الفكرية.
منذ أن جثم الاستعمار الغربي على الوطن العربي، وجميع شرائح المجتمع، ومكوناته الفكرية والسياسية والاجتماعية والجماهيرية تقاوم هذا الاحتلال العسكري، والغزو الفكري، والاستلاب الحضاري والابتزاز الاقتصادي، وقد أفلحت الشعوب وأفلح معها زعماء القومية العربية في طرد المستعمر ولو إلى حين، غير أن تلك الأنظمة الاستعمارية استعارت عشرات الأقنعة، لتتستر خلفها، وتتسلل عبر قنوات متعدد، لتعود لاستعمار الأمة العربية من جديد، وتحت غطاء جديد: وراء قناع الديمقراطية والتنمية الاجتماعية، وحرية المرأة وحقوق الإنسان…، وأخيرا تحت غطاء مكافحة الإرهاب، ومظلة الأمم المتحدة، ومؤامرة من مجلس الأمن، ودعم من سلطة حق الفيتو، ففرضت الدول العظمى- وفي مقدمتها الولايات المتحدة- على باقي دول العالم وصايتها، وأرهبت أنظمتها، وأجبرتها على ارتداء تلك الأقنعة، رغم أنها ليست على مقاسها، وفرضت عليها الاقتناع بالوهم، والتعامل معه على أنه حقيقة، ومن جراء ذلك فقدت الدول المستضعفة والنامية -وعلى رأسها الدول العربية- مناعتها واتحادها وقوتها، وبالتالي فقدت عبرة وجودها!.
ونتيجة لذلك اصطدم الفكر العربي بصخرة الإمبريالية الغربية، وعلى خلفية ذلك اضطرب الفكر السياسي، وفشل المشروع الاقتصادي، وانحرف السلوك الاجتماعي، وتصدع البناء الوحدوي، وتردد وتذبذب الخطاب العربي، وأصيب الفكر القومي بأزمة فقدان الثقة، فاقتحم الخوف والتخوف قلاع النفس العربية، وأجبرها على كبث أفكارها، وتحنيط مواقفها، وفرض عليها التلميح في الخطاب بدل التصريح، وبناء الكلام للمجهول بدل بنائه للمعلوم، وخوفا من المسألة والمتابعة تغيب الفاعل، أو تأخر ظهوره، ساد الحديث عن الضمير المستتر بدل الإشارة إلى الضمير البارز المتصل أو المنفصل، خوفا من ملاحقته، أو اعتقاله ومصادرة أفكاره، وتكبيل مواقفه، وعندما يظهر الفاعل، ويبرز الضمير المستتر، يكون الوقت قد فات، والفرصة قد ضاعت، وكم هي الفرص الضائعة التي لم يستفد منها الضمير العربي!.
متى يفيق هذا الضمير من صدمته؟
متى يستيقظ هذا الضمير من غفوته؟
متى يستعيد هذا الضمير عافيته وقوته؟
متى يسترجع موقعه، ويعبر بشجاعة عن مواقفه؟
لقد آن الأوان لتكسير قيود الخوف والتخوف، فإن إسرائيل بمحاصرتها للشعب الفلسطيني تحاصر الإرادة العربية، وبتدميرها للمدن الفلسطينية تدمر الأمة والوحدة العربية، وبقتلها النساء والشيوخ والأطفال تسعى لاغتيال الضمير العربي، فلن يعد في مصلحة هذا الضمير أن يبقى مستترا، ولم يعد ينفعه اختفاؤه، عليه أن يتحمل مسؤوليته التاريخية، ويقوم بواجباته والتزاماته القومية، ويستعيد شرعيته، ويأخذ موقعه المناسب في المنظومة الدولية، ومكانه الحقيقي في سياق الجملة العربية، وأن يظهر في الوقت المناسب، والمكان المناسب، في الخطاب العربي، وفي الموقف السياسي.
إنه الفاعل الظاهر، في الماضي والحاضر والمستقبل، إنه خالد بن الوليد وطارق بن زياد، وصلاح الدين الأيوبي، وجمال عبد الناصر، ومحمد الخامس، والحسن الثاني وأبو عمار، فلنصحح جميعا الخطاب، وليكن مبنيا للمعلوم، ولنقل: انتصر الحق العربي، وصرح عمرو موسى عند عودته من القمة العربية: إن الفاعل اسم ظاهر، ولم يعد ضميرا مستترا، إنه التضامن العربي، إنه المصير المشترك، والوعي الجماعي، والضمير الحي.
ملحوظة: سبق نشر هذا الموضوع سنوات قبل الربيع العربي، موضوع مركب يمزج بين الضمير اللغوي والضمير الإنساني.