لملمت أشيائي وجهزت حقيبتي للسفر باتجاه بيت أسرتي بمدينة القصر الكبير عائدة من طنجة، توجهت إلى محطة الحافلات، حجزت تذكرة، وبينما كنت أتأهب لمغادرة شباك التذاكر أشار إلي أحد العاملين بالمحطة إلى اتجاه أتخذه زاوية للانتظار لحين وصول الحافلة المعنية بنقلي، استجبت لتوجيه الرجل ووقفت بأمتعتي أنتظر، وبينما أنا كذلك إذا بامرأة شابة، قصيرة القامة، نحيفة البنية، ترتدي جلبابا وتحمل قفة في يديها، تنظر إلي وتتجه نحوي في ابتسام.
ظننتها للوهلة الأولى تبتسم لغيري، التفت حولي ربما أجد شخصا يكون هو المقصود بابتسامتها فلم أجد، أيقنت بالفعل أنني المقصودة، كنت أنظر إليها في حيرة لكوني لا أعرفها ولم يسبق لي أن رأيتها، تقدمت نحوي وألقت التحية والسلام وأردفت :
– هل تريدين مساعدة لك بالبيت ؟
أجبت بدهشة واستفهام كأني لم أسمع ما قالت :
– نعم ؟؟
قالت المرأة :
– أنا أشتغل خادمة بالبيوت، وأبحث حاليا عن عمل، إذا كنت في حاجة إلى مساعدة أستطيع العمل لديك.
قلت:
- لقد أخطأت العنوان سيدتي، أنا طالبة جامعية، لازلت أدرس وأقوم بواجباتي بنفسي.
قالت :
- حسبتك موظفة .
قلت ضاحكة :
– فأل خير ، ربما جعل الله لي نصيبا في الوظيفة مستقبلا.
توقعت حوارنا سيتوقف هنا، غير أن المرأة ظلت لصيقة بي وطلبت مني إن كنت أعرف أسرة أو سيدة عاملة في حاجة ماسة لخادمة أو مساعدة في البيت، غرقت قليلا في التفكير، وقبل أن يسرح عقلي أكثر سألتها :
– هل لي أن أعرف سبب توقفك عن الاشتغال مساعدة في الوقت الراهن ؟
استرسلت المرأة تحكي:
لقد تركت للتو منزل سيدة تقيم في شقة بعمارة بمدينة طنجة ..
قاطعتها مستفسرة في فضول :
تركت ؟؟ لماذا وهل تقصدين أنك لن تعودي للعمل لديها مطلقا أم أنك فقط أنهيت ساعات العمل؟
ردت بحماسة الأبطال:
– لا .. لقد غادرت دون رجعة.
اشتد اهتمامي لمعرفة مزيد من التفاصيل، سيما وأن الوقت مازال أمامي لقدوم الحافلة، واصلت المرأة سردها:
- منذ مدة تعرفت على سيدة كانت تبحث عن مساعدة لها بالبيت لكونها حامل في الأشهر الأخيرة، لاأخفي أني أعجبت بالشقة من حيث جمالها وحسن نظافتها وترتيبها، وأعجبت حتى بالمرأة ربة البيت والجو الأسري الذي تنعم به وأفتقده أنا بكل تجلياته: زوج محترم، ابن يدرس بالتعليم الخصوصي، سيدة أنيقة ملكة في بيتها ولا تشتغل خارج البيت ..
قاطعتها :
- لعلك حسدتها !! ها .. أكملي وباختصار من فضلك
قالت:
المبلغ الذي أتقاضاه غير كاف بالنسبة لي، تحت رعايتي ابن والده يهمله ولا ينفق عليه.
قلت :
وهل فاتحت مشغلتك في الموضوع، ربما تفهمت وضعك وتعاطفت معك وكان لك ما تطلبين.
ردت السيدة:
– – لم أفعل، أصلا السيدة لديها مصاريف كثيرة وعلى وشك الإنجاب
قلت :
-إذن ؟؟ ما دمت على اطلاع بالأمور كان الواجب أن تتفهمي وضعها على الأقل في مثل هذا الظرف العابر.
ردت :
– لم بكن أمامي سوى أن آخذ ما أرغب فيه بدون إذنها لتعلم بشدة احتياحي.
نظرت إليها بغضب وقلت :
- تسرقين مشغلتك ؟ تسرقين من أمنتك على مملكتها وفوضتك ندبير كل شيء ؟
أردفت:
– لا .. لست سارقة، أنا أحتاج وما آخذه بدون إذن لا يخرج عن نطاق احتياجي.
قلت :
مثلا ؟؟
أجابت :
مرة شعرت بالجوع وفتحت الثلاجة ومددت يدي لأشياء كانت بها وأكلتها، وعندما تفقدتها صاحبة البيت لم تجدها وسألتني، غضبت بشدة لأني تناولتها، وحذرتني من أن أقترب من الثلاجة مرة أخرى إلا بإذنها.
قلت:
هل اتفاقكما من البداية أن تأكلي لحسابك ؟
قالت:
لا، أنا آكل مما يأكلون، وليس على نفقتي، فقط شعرت بالجوع يومها وفعلت ما فعلت.
قلت:
ما أدراك ربما ما تناولته دون إذن كانت تدخره سيدة المنزل لضيوف، أو ربما هو الطعام المفضل للزوج أو الإبن، في كل الأحوال كان يلزم الاستئذان يا سيدتي
.قالت:
لأجل هذا قررت مغادرة البيت.
قلت:
طيب، وهل صارحت سيدة المنزل ؟
أجابت :
لا
استفهمتها :
لماذا؟؟
ردت بكل وقاحة :
انتقاما منها توقفت عن أي تنظيف أو غسيل أو ترتيب بالشقة، وادعيت أني توصلت بمكالمة هاتفية تفيد بأن ابني الصغير في حالة خطيرة وعلى الالتحاق فورا بقريتي (قرية من قرى غرب المملكة)، اصطنعت البكاء وتظاهرت بالانهيار كي تثق بي وتصدقني وأكسب بالتالي تعاطفها، وقبل أن أخرج طلبت منها مساعدة مالية ..
لم أدعها تكمل وخاطبتها بلسان فظ:
- أيتها الشريرة الخبيثة
أجابت بابتسامة ماكرة:
- أشفقت المرأة لحالي وربتت على كتفي ومدتني بالمال، وتوسلتني أن لا أطيل الغياب وأن لا أتخلى عنها. طمأنتها أني سأعود، وفي قرارة نفسي ما ينقض الأمر.
قلت :
- خبيثة .. ماذا لو تحقق في ابنك ما ادعيته فعلا؟ الله لا يحب الظلم
فزعت وقالت:
لاااااا .. حفظ الله إبني، ولا أحزنني فيه ولا أراني فيه ما يؤلمني.
قلت في سخط:
تؤلمين غيرك ولا تقبلين لنفسك الألم، ذنوب المرأة ستلاحقك ليوم الدين، فلتنتظري الأسوأ من رب العباد، لاتفرحي ولا تظننين نفسك أحسنت صنعا أو فزت. أرجوك اتركيني لحالي..
كانت نظرات الشر من المرأة إلي مثل السهام التي تخترق جسما شفافا، سوء فعلها أعاد إلى ذهني صورة كل امرأة لا حيلة لها تعيش الحياة بين مطرقة الواجب الأسري وسندان الواجب المهني ولا رحيم إلا الرحمان.
وددت لو أن قوانين الكون تسمح بأن أصفع الماكرة على خدها إلى أن أشفي غليلي وغليل كل امرأة فتحت بيتها لغريبة فوثقت بها وأمنتها على كل ركن من أركانه لتجتر في النهاية مرارة الخيبة والخذلان.
لم ينتشلني من الغيظ الذي كنت أتخبط فيه سوى سائق الحافلة وهو يرسل صوت المنبه منها ليصعد كل الركاب إعلانا لانطلاق السفر نحو وجهاتنا المختلفة، صعدت وحينما جلست بمقعدي أرسلت تنهيدة أبغي التخلص بها مما اكتسبته من طاقة سلبية أثناء التحاور مع امرأة من طينة الأوغاد، لا يهمها إلا نفسها ومصلحتها والهلاك للباقين.
–