التقى القلم بالقرطاس على ضفة النهر، وتعانقا عناق العشاق، وقال القرطاس للقلم معاتبا: طال غيابك، أجف قلمك أم قل زادك؟، أخاف البياض، تربتي خصبة، ازرعها حروفا أمنحك كتابا، ما رأيك؟، مهلا، أستشير صاحبي، ونلتقي غدا على ضفة النهر.
عاد القلم صبيحة يوم الغد إلى ضفة النهر، ووجد القرطاس في انتظاره، وبعد رد التحية من بعيد، فاجأه مرة أخرى يعاتبه، ماذا دهاك أيها القلم؟، لقد تأخرت عن الموعد بخمس دقائق، وأنت القدوة في الالتزام، وتبليغ الرسالة، قد شرفك الله بأن أقسم بك، وفضلك على كثير من خلقه.
أيها القرطاس لا تتطاول علي باتهامك، فأنت لا تعلم شيئا إلا ما أخطه على بياضك، لقد كنت أدبر أمري، وأرتب أفكاري، وأصحح ألفاظي، وأتزين بحسن الكلمة، وجمال العبارة، وذلك من أجل ألا أسقط في متاهات الارتجال والرداءة، والآن أنا مستعد للكتابة، ناولني صفحة أو صفحتين أو ثلاثة، أنا جاهز لأكتب قصيدة شعر، أو قصة أو مقالة، أسرع قبل أن يقفل الكتاب دفتيه، والكاتب مستعجل ينتظرنا خلف الجسر، بباب دار الطباعة والنشر.
على ضفة المعرفة
من ضفة الوجود بالقوة انطلق القلم والقرطاس إلى ضفة الوجود بالفعل، عبر جسر الحقيقة والواقع، استقبلهما الكاتب بابتسامة الرضا، لأنهما احترما إجراءات الاحتراز من الإصابة ب”فيروس كرونا”، يضعان على وجهيهما قناع الوقاية، ويحترمان مسافة الأمان والسلامة.
تقدم القلم خطوة، وقال: سيدي، هذا ما جادت به قريحتكم، وانتهى إليه علمكم، وتكرمت به ملكتكم، تلقيته منكم بحسن إصغاء، وأودعته بين ثنايا الصفحات بكل أمانة، وقال القرطاس: سيدي الكاتب، لقد بسطت لقلمك كل المساحات، ليسجل عليها مقالاتك، وقصصك وخواطرك وأشعارك، ويعقلها بعقال الحرف والكلمة على أعمدتي، خوفا من أن تنفلت منه، أو يغتالها النسيان، أو يغيبها الصدى.
راجع الكاتب تلك الصفحات، وصحح بعض الأخطاء، وصادق عليها بإمضائه الشخصي، فأصبحت قابلة للطبع، وألقى عليها نظرته الأخيرة، كمن يودع أبناءه إلى المستقبل المجهول، فتقبلها الناشر، وبعد عملية التوضيب، والتصفيف أسلمها لدواليب آلات الطباعة، وبعد أسبوع وحين سيكون الكتاب جاهزا للقراءة.
انتقلت الصفحات من أنامل الكاتب، وسكون الذات، إلى دواليب المطبعة، وضجيج الآلات، لقد أحسن التقنيون في إخراج الكتاب في حلة جميلة، وأبدع الفنان في تشكيل غلافه البهي، الموحي لناظره بأهمية مضمونه، مئات النسخ الجميلة، تغري بالاقتناء والقراءة، على مرآة الوجود رأى الكتاب طلعته البهية، فتضخمت فيه غريزة التباهي، وحب الذات، وعلى ربوة الأنا العليا نادى قراءه المفترضين، لا ينالني منكم إلا المثقفون، والطلبة والأساتذة الباحثون.
احتفاء بالكاتب والمكتوب نظمت إحدى الجمعيات حفل توقيع الكتاب، وتكريم الكاتب الصديق الودود، وعضو الجمعية الوفي السخي، سلطت الأضواء على منصة التتويج، وتنافست الكلمات والعبارات والشهادات، الصادقة، والمجاملة، والمنافقة في إظهار أهمية الكتاب، ومكانة صاحبه العلمية والأدبية والاجتماعية، استوفى المحتفى به حظه من الإطراء والتبجيل والإعجاب، وانتشى الكتاب بجميل الإشادات، وسحر الكلمات، وفي ختام الحفل ركز مهندس الإنارة الأضواء الكاشفة على صاحب القلم، وهو يوقع لمنظمي الحفل، ولبعض الأصدقاء عشر نسخ من كتابه، أقل من ذلك أو أكثر.
وقبل كلمة الوداع، أخبر مقدم الحفل الحضور “الكريم” بأن الكتاب معروض للبيع في نقط توزيع متعددة ومحددة، وغدا انطلق عداد الإحصاء، مئات تصريحات الإعجاب بالفيسبوك، عشرات الأسئلة عن نقط البيع والاقتناء، سيل من عبارات التهنئة والإشادة، مرت الأيام والأسابيع والشهور، ولا زال العداد يسجل صفر مبيعات، الكل يريد نسخة من الكتاب، ولكن هدية أو بالمجان، إنها حقا أزمة قراءة، وأزمة قراء.