لم أصلح يومًا لشيء كما أصلح لأكون أبًا صالحًا.
حتى وأنا أتجول في السوق باحثًا عن قطة تؤنس وحدتي، لم أخترها لجمالها فحسب، بل لأن في ملامحها شيئًا من الأدب والحياء. كانت الوحيدة بين القطط حين التقت عيناها بعيني، أشاحت بوجهها بخجل، وكأنها تعرف أصول اللقاء الأول. دون تردد، اقتنيتها، وعدت بها إلى البيت، وأنا أستشعر في قلبي بهجة الأبوة الأولى.
قلت لها منذ اليوم الأول:
التربية ليست أمرًا هيّنًا، لكننا سنتعلم معًا.
النظافة عادة لا يمكن التهاون فيها، والنوم بعد الغروب قانون لا نقاش فيه. فليس من اللائق لقطة رقيقة مثلك أن تتسكع في الدروب، وأن تثير كلام الجيران. ولا تأكلي من الأرض، أرجوك، فذلك لا يليق بجمالك.
كنت أقول هذا وأنا أبتسم، لا أريدها أن تخاف، كنت أريد فقط أن تتعلم — على مهل.
مرت الأيام، وكنت سعيدًا بها، سريعة الفهم، مطيعة كطفلة تعرف حدود الدفء .
لكن شيئًا ما تغيّر.
شهيتها للطعام تراجعت، ومواؤها الذي كان يملأ البيت أنسًا، صار حزينًا، كأنه أنين من عالم آخر. شحب بريق عينيها، وغدت شاردة النظرات.
آخر مرة رأيتها من النافذة… كانت تركض بخفة وفرحٍ لم أعرفه فيها من قبل، وإلى جانبها قط أسود، بدين، ثقيل الظل، يلهث وراءها كصعلوك وقع في الحب.
وقفت هناك طويلاً أحدّق فيهما، أحاول أن أفهم:
كيف اختارت هذا المجهول؟ كيف تجرأت على مغادرة دفء البيت الذي بنيته لها بحنان؟
ربما كان عليّ أن أحذرها من وهم الحب قبل فوات الأوان.
آه، صغيرتي…
كم كنت أظن أنني أستطيع أن أحميك من العالم، من الخطأ، من الألم. صفّدت الأبواب، وأغلقت النوافذ، ومع ذلك تسلل الحب إليك خفيةً، كنسمة ليلية لا تُصدّ ولا تُرى.
سرقك مني هذا المسخوط، وسرق منك طمأنينتك، وألقى بك نحو الشك والجراح والعذاب.
ربما كنت أنا السبب، حين تركتك تستمعين معي إلى فيروز، وهي تغني يا مرسال المراسيل،
وحين قرأت لك قارئة الفنجان لنزار قباني،
وحكيت لك عن العشق كما رواه محمد الجباري في قصته موعود.
ربما كنتُ أنا من فتحت الباب للحلم… والخذلان معًا.
البارحة اقتنيت فراشة.
جميلة، رقيقة كقلبٍ لم يُمسّ بعد.
وقبل أن أعلّمها قواعد النظافة والأكل والخروج، سارعتُ إلى التخلص من كل ما قد يوقظ في قلبها الشوق:
من أغاني فيروز،
ومن قصائد نزار قباني،
ومن قصص محمد الجباري
























