يعتبر الدكتور مصطفى يعلى أحد أعمدة الكتابة القصصية في المغرب على الخصوص. هو بدون شك صاحب تجربة ثقافية من طراز خاص. وبالرغم من اشتغاله بالتدريس في السلك الثالث من التعليم العالي في جامعة ابن طفيل، لم يتراخ ولاؤه للقصة وصار البحث العلمي شاغله الأثير. أغنى الخزانة المغربية والعربية بمجموعة من الكتب النقدية الوازنة. نذكر منها ” السرد ذاكرة “، ” القصص الشعبي: قضايا وإشكالات “، ” ظاهرة المحلية في السرد المغربي” وغيرها من الكتب النقدية، إلى جانب إبداعاته القصصية القيمة ” أنياب طويلة في وجه المدينة “،” دائرة الكسوف”، ” لحظة الصفر”، “شرخ كالعنكبوت” وغيرها.
من موقعكم كباحث ومبدع، كيف تعرفون القصة؟
في البداية، أشكرك الكاتبة الجادة سناء بلحور، على هذا الاهتمام الكريم.
وللإجابة على هذا السؤال الأزلي، أقول : من الصعب تحديد تعريف قار للقصة القصيرة. فرغم المحاولات المتوالية الكثيرة منذ إدجار آلا ن بو في القرن التاسع عشر، إلى الآن لم يتم وضع تعريف نهائي لها متفق عليه. وإن كان بعضهم قد حددها من حيث المساحة، في عدد الكلمات، وأخرون في عدد الصفحات، بينما حاول غيرهم تحديدها زمنيا، فقالوا إن القصة القصيرة هي التي تقرأ في جلسة واحدة، أوفي ساعة أو ساعتين، فضلا عمن حددوها شكليا، فجعلوا حبكتها تتكون من بناء هرمي ينطلق من مقدمة نحو الذروة، ثم تأخذ العقدة في النزول نحو لحظة التنوير، حيث المفاجأة غير المنتظرة. لكنها قطعا، تستعصي على الانضباط لتعريف قار جامع مانع، مثلها مثل الرواية والشعر، اللذين تشترك معهما في عدد من المكونات.
ومع ذلك، فأكيد أنني أنطلق في كتابة القصة القصيرة، من تصور ما، مادامت تعتبر خطابا مخصوصا، له مكوناته وآلياته المميزة له عن غيره. فالقصة القصيرة في فهمي، هي التي تقنعني بواسطة أدبياتها وبلاغتها التخييلة، بكونها قصة قصيرة حقا. أي باعتبارها نوعا سرديا تخييليا مشروطا بمواصفات تعبيرية قابلة للتكيف والتأثر بمختلف التطورات والإحداثيات، التي يأتي بها العصر. إضافة إلى أنها مخلصة لطبيعتها، بحيث تتميز كل مكوناتها بالقصر الفعلي زمنا وفضاء وشخصية وحدثا وموقفا.
على مدار أكثر من أربعة عقود، ظللتم أوفياء للقصة. ما سر تعلقكم بكتابة القصة القصيرة؟
ترتيب جوابي على سؤالك هذا، الأستاذة المحترمة سناء، أسوقه على صورة تعيين مجموعة من الأسباب، كالتالي:
1 – لقد كنت أحمل حبا فطريا نحو هذا القص، ربما بسبب تشبع أذني بالحكايات الشعبية التي كانت تروى لي في طفولتي الأولى، ثم ولعت بسماعها في الحلقات، التي كانت تقام بساحة لالاّ العالية، في مدينة القصر الكبير، حيث ولدت ونشأت.
2 – إنني فتحت أعيني الأدبية، على جيل الستينيات من القرن الماضي، إذ كانت القصة القصيرة جد مزدهرة، وحركية التجريب فيها نشيطة، باعتبارها من أسرة السرد، التي جعلت تزاحم الشعر، فيما كان يحظى به من مكانة اعتبارية متميزة، خلال قرون طويلة عندنا، بين مختلف الأجناس الأدبية الأخرى.
3 – وجدتني منذ انفتاحي مبكرا على القراءة بهوس، بعد المرور بمرحلة المنفلوطي وجبران خليل جبران وروايات أرسين لوبين البوليسية، أنصرف طبيعة للإقبال يوميا على قراءة القصة القصيرة تحديدا، دون إهمال لقراءة بعض الروايات الشهيرة في الفترة، مثل (مدام بوفاري) لجوستاف فلوبير و(وداعا للسلاح) لإرنست همنغواي و(الصخب والعنف) لوليم فولكنر.
4 – كنت أعجب بما ينشر للكتاب العرب والأجانب، من مثل نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف إدريس وإبراهيم أصلان وبهاء طاهر وعبد الرحمن مجيد الربيعي وعبد الكريم غلاب وعبد المجيد بنجلون، وأنطون تشيكوف وإدجار آلان بو وسومرت موم وألبرتو مورافيا وإرنست همنغواي وفرانز كافكا، وغيرهم من الأسماء المعروفة والمتداولة في تلك الفترة. وكنت أستفيد من كتابات كل منهم بهذا القدر أو ذاك.
5 – خلال وبعد الدراسة الجامعية، صرت أدرك أن هذا التفضيل للقصة القصيرة، إلى جانب السبب الذاتي، نابع من تأثير موضوعي، أي من طبيعة العصر، المتجهة يوميا نحو السرعة المطردة، والمسؤولة عن ضيق فسحة الوقت الكافي، لكتابة وقراءة المطولات السردية، فضلا عن توسيع البيئة المثالية لتفريخ المهمشين والمنبوذين، وهي بالمقابل لا تسمح إلا لتعاطي النصوص القصيرة، المتمركزة حول الموقف الواحد المحدود، وليس مواقف الحياة المتعددة والمتشعبة.
6 – ضفي إلى كل ذلك، سهولة نشر القصة القصيرة في المنابر المختلفة، في وقت كان نشر كتاب يدخل في دائرة الإعجاز.
تتناول إبداعاتكم القصصية قضايا الإنسان العادي المكدود بأعباء الحياة وصعوباتها، هل يمكن اعتبار ذلك من خصائص القصة؟ وهل تستحضرون الجانب النقدي خلال كتابتكم للقصة أم تفسحون المجال للذات المبدعة؟
لقد انطلقت في كتابة القصة القصيرة بشكل نشيط، خلال السبعينيات. وهذا يعني أن المرحلة كانت مرحلة صراع إيديولوجي، طاغ على الساحة الاقتصادية والسياسية والفكرية والإبداعية. وقد وجد هذا الوضع تشخيصه في المعالجة الأدبية للواقع المزري، الذي خلقه الصراع الطبقي الحاد في الفترة. إضافة إلى أن الاتجاه الواقعي مثل حاضنة أساسية للكتابات الأدبية إبداعا ونقدا. لهذا كان الواقع الاجتماعي بظواهر الضياع، والاضطهاد، وجبروت الأثرياء بالوراثة ومحدثي النعمة، المستفيدين من مغربة القطاعات الاقتصادية وما إلى ذلك، مرتكزا مشتركا بين معظم الكتابات بأجناسها الأدبية المختلفة.
ولعلك من خلال قراءاتك للقصة القصيرة الكلاسيكية، قد أدركت أن مثل هذه الموضوعات الاحتجاجية، كانت مادة مهيمنة على قصص كتاب كبار، أمثال غوغول وتشيكوف وجي دي موبسان. ولا غرو، فإنه قد أصبح من المسلم به في نظرية القصة القصيرة، كون الفرد المغترب المهمش هو البطل المفضل في هذا النوع السردي.
وبالطبع فإنني ظللت وفيا لهذا التوجه، وإن كنت قد ملت من جهة، إلى المزاوجة بين ما هو واقعي استلهاما لتشيكوف وأمثاله، وما هو عجائبي تأثرا بقراءاتي لأمثال كافكا وبورخيس وكورتازار، من جهة ثانية. أي الجمع ضمنيا بين ما هو ذاتي، وما هو موضوعي، خصوصا في قصصي المتأخرة. وربما كان هذا بفعل الاحتكاك بموجة التمركز على الذات، التي هيمنت على كتابة القصة القصيرة منذ مطلع الثمانينيات.
أما عن استحضار الجانب النقدي خلال إبداع قصصي، فاسمحي لي أن أتساءل أولا: هل عندنا نقد حقيقي؟. إنني لم أبال دوما بما يقوله ما يشبه النقد عندنا. بل دائما كنت أمنح نفسي حرية الإبداع، المسلحة بنظرية القصة القصيرة، والموهبة، والقراءة المدمنة للنصوص الجيدة، مستندا إلى النقد الذاتي الصارم، المتفوق على هرطقات مدعي النقد. ويخطئ من يفصل نصوصه القصصية على مقاس معايير النقاد. فالقصة التي لا تنبع من تقمص الكاتب للتجربة المعالجة، وتركها تبحث عن التجسيد البنيوي في الشكل الذي يلائمها، أكيد أنها تولد بولادة قيصرية مميتة.
الكتابة القصصية في المغرب والعالم العربي. أي توجه؟ وأي مستقبل؟
عطفا على ما أشرت إليه سابقا، بالنسبة لاستجابة القصة القصيرة لروح العصر الشديد السرعة، وما أصبح يتسم به من تعقد وتشعب وضياع الإنسان، إضافة إلى دخول الكتابة الإلكترونية على الخط، في الحواسب والإنترنيت، وازدياد ضمور رقعة قراء الكتاب الورقي؛ فمن المتوقع أن تستعيد القصة القصيرة مكانتها مغربيا ومشرقيا، إن لم أقل عالميا، وفق ما يتأكد من منح جائزة نوبل للآداب للقصة القصيرة، برسم سنة 2013 ، اعترافا باستمرارها في معالجة قضايا الإنسان، وببلاغة جمالية عالية. فبهذا الوعي، أرى أن المستقبل للقصة القصيرة، ولأختها الصغرى القصة القصيرة جدا. بدليل هذا الإقبال الشاسع على كتابتهما وقراءتهما من لدن الجيل الجديد.
ارتبطت القصة القصيرة في المغرب بالصحافة، شأنها شأن القصة العربية والعالمية. هل ما تزال الصحافة تلعب هذا الدور الرائد في خلق إشعاع حول الإبداع القصصي؟
فعلا، لقد ساهمت الصحافة، كما هو معروف، في نشأة القصة القصيرة العربية، ومنها المغربية، وطبعا لا يتسع هذا الحوار للخوض في الظاهرة.
وأكتفي بالقول: إن الصحافة قد لعبت دورا أساسيا، في دعم وترويج القصة القصيرة المغربية، خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، خصوصا وأن إقبال القراء عليها كان قويا فترتئذ. علما بأنه ضمن الخط البياني لتطور هذا الفن الجميل عندنا، لوحظ أن كثيرا من الأسماء التي ستبرز في تاريخ القصة المغربية القصيرة، وكثيرا من نصوصهم المميزة، التي ستلتئم فيما بعد، داخل مجموعات قصصية لها اعتبارها، كان أول ظهورها وانتشارها في تلك الفترة، على صفحات جريدة “العلم” ثم جريدة “المحرر”، فضلا عن مجلة (أقلام)، التي كانت أعدادها تصدر محملة بمجموعة مهمة من النصوص القصصية لأولئك الكتاب وأمثالهم.
أما حاليا، وكما يلاحظ الجميع، قد شحب دور الصحافة عن ذي قبل، في الاحتفاء بالقصة القصيرة، حين همش الجانب الثقافي بها، وطغى عليها الاهتمام بما هو حزبي وسياسي أكثر، وقل عدد قرائها. لاسيما وأن صفحات التواصل الاجتماعي والمجلات والمواقع الإلكترونية بالإنترنيت، قد أضحت مجالا مفضلا لنشر وقراءة النصوص القصيرة، من قصة قصيرة وقصة قصيرة جدا وومضات، وبسرعة وسهولة.
في العديد من كتاباتكم عن السرد الشعبي، تطرقتم إلى الحكاية الشعبية. إلى أي مدى يمكن اعتبارها مرجعا أساسيا في الكتابة القصصية على الخصوص، والأدب الإنساني عموما ؟
أولا، يجب التسليم بالقيمة الإبداعية للقصص الشعبي. فهو مثل باقي الأجناس الأدبية الشعبية الأخرى، يعد من أقدم الآداب الإنسانية وأغناها. كما أنه مبني على أشكال فنية دقيقة، ذات عناصر جمالية وقوانين محددة ومضبوطة. فهو مستودع خصائص الشعوب القديمة، ومجلى تفكيرها ومعتقداتها، ومحط عبقريتها التخييلية، مما أدخله ضمن دائرة اهتمام علماء النفس، والاجتماع، واللغة، والأنتروبولوجية وغيرهم. وبكلمة واحدة، هو بجانب الأدب الرسمي يقدم الوجه الثاني لعملة الأدب الإنساني.
وثانيا، لقد اعتبر السرد الشعبي رافدا مثريا لكل أجناس الأدب الإنساني عامة، والقصصي خاصة. وفي حين أبدى بعض كبار الكتاب العالميين إعجابهم بهذا الأدب وتحمسوا له، استلهمه آخرون غيرهم في صوغ عدد من أعمالهم الإبداعية، بينما أعاد بعضهم صياغة نصوصه القصصية بأسلوبهم الخاص. ولعل أهم مثال يجسد مدى الاستفادة من الإرث الشعبي، في حقل الإبداع القصصي، ما اجترحه الكاتب الجواتيمالي أغوستو مونتيروسو في قصصه القصيرة جدا، من محاكاة ساخرة واستنساخ وتناص مع الحكاية الخرافية، الواردة على لسان الحيوانات وباقي كائنات الطبيعة، شكلا ومضمونا، لولا توجيهه البعد الرمزي نحو أهداف معاصرة، اعتمادا على المفارقة والسخرية المستفزة، مثلما قد يدرك القارئ العربي من مجموعتيه المترجمتين (النعجة السوداء وحكايات أخرى) ضمن منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب سنة 2003، و(أيها القناع الصغير أعرفك جيدا)، الصادرة عن دار كنعان بدمشق، سنة 2005.
القصة القصيرة جدا والقصة القصيرة أية علاقة؟
سأضطر لتغيير أسلوب إجابتي بالنسبة لهذا السؤال، بسبب نوعيته الحرجة. فأستبدل الخطاب المباشر بخطاب مجازي غير مباشر. وهكذا أقول بنوع من التجسيد: إن العلاقة بين هذين النوعين السرديين، علاقة أخت بأختها. تحنو القصة القصيرة على أختها الصغرى، فتمد مكوناتها بالدماء الفاتنة اللازمة لبلاغتها، من إحكام وعمق ورشاقة وتكثيف وشاعرية وتلميح ومحدودية فضاء ورحابة إيحاء. في حين، تحترم القصة القصيرة جدا أختها الكبرى القصة القصيرة، وتفسح لها مكانة اعتبارية بجانبها، تقديرا لها واعترافا بفضلها عليها. ولا عجب، فهي قد خرجت من جبتها، مستوفية شروط ولادتها الذاتية بالكامل. لهذا فهما معا تشدان كفا على كف، وتسيران نحو آفاق واحدة. خصوصا وأن طبيعة العصر ترعاهما وتدفعهما إلى ارتياد مصير واحد متألق، لكونهما تستجيبان لرغبتها في التعبير عن راهنيتها. أو كما يقول المنظّر الأرجنتيني إنريكي إمبيرت: “لقصر القصة فاعلية الإحاطة بالحركات القصيرة للحياة”.
هناك إقبال على كتابة القصة القصيرة جدا، وصدور عدد كبير من المجموعات لكتاب جدد، هل من نصيحة أو نصائح تقدمها لهم؟
من الصعب توجيه النصائح في الإبداع حصرا. ومع ذلك فلا أرى حرجا في تعيين بعض المطبات اللازم تحاشيها من قبل الكتاب الجدد للقصة القصيرة جدا:
ـ في اعتقادي إنه ليس في الإمكان إتقان كتابة القصة القصيرة جدا كما ينبغي، إذا لم يعالج كاتبها القصة القصيرة بفهم وإقبال، حتى يتشرب أدوات الخطاب القصير. ويحضرني هنا مثال متطابق مع هذا المطلب، عشناه في الستينات، ويتعلق بالشعر الحر. فمن كان لامعا في أعماله الشعرية أكثر، هم الشعراء الكبار، الذين أتقنوا القصيدة العمودية، وتتلمذوا على إيقاعها، قبل أن يجترحوا شعر التفعيلة، ويتفوقوا في إبداعهم فيه. أمثال نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي ونزار قباني وغيرهم.
ـ فاقد الشيء لا يعطيه، حسب المثل المعروف. لهذا، من لا يدمن قراءة النصوص المتميزة لكبار كتاب هذا الفن السردي الجديد، خصوصا لدى أدباء أمريكا اللاتينية، حيث ازدهرت القصة القصيرة جدا بصورة موسعة، لدى أمثال أغوستو مونتيروسو وأنخيل مالدونادو أسيفيدو وخورخي لويس بورخيس وخوان خوسي أريولا، أقول: من لا يفعل ذلك، من المؤكد أنه سرعان ما سيغادر هذا الحقل، بعد تجريب كتابة نصوص معدودة غير موفقة. إذ أن القصة القصيرة جدا حديثة العهد، وليس لها تراث مماثل لما راكمته الرواية والقصة القصيرة، مما يتطلب مضاعفة الجهد لخلق المسار الخاص بكاتبها.
ـ أيضا، في رأيي المتواضع، أن من لا يملك روح شاعر داخل أعماقه، لن يتفوق في كتابة القصة القصيرة جدا، بسبب ما تشترك فيه مع الشعر من مكونات جمالية، مثل التكثيف الشديد، ودينامية الحركة، والإيقاع الداخلي، وبلاغة الإيحاء، ورشاقة الأسلوب، وغيرها. وهنا لابد من التذكير بعدتي الكتابة الإبداعية إطلاقا: الموهبة والاكتساب. والحس الشعري يمثل نكهة الموهبة المفضلة.
أمام طغيان الإبداع الروائي الذي اكتسح الساحة الأدبية، أين تتموقع القصة؟، وما هي ارتساماتكم حول الكتابة الروائية المغربية؟
كما ألمحت سابقا، الحاضر والمستقبل للقصة القصيرة والقصيرة جدا تخصيصا. هذه حقيقة حتمتها طبيعة العصر. فانظري كم من المجاميع القصصية تصدر عندنا تباعا كل وقت، بينما قلما تصدر رواية هنا وهناك. وانظري كذلك حجم نشر القصة القصيرة والقصيرة جدا، ومدى ممارستهما على الصفحات والمدونات والمنتديات والمواقع والمجلات الإلكترونية. فما عاد العصر يتقبل سوى النصوص القصيرة المركزة إلى أقصى الحدود.
أما عن الرواية المغربية، فيبدو لي بكلمة واحدة، أنها قد قالت ما عندها مما لها وما عليها، إن في المعالجة الكلاسيكية وإن في المحاولات التجريبية الحداثية. أي منذ دفنا الماضي لعبد الكريم غلاب، حتى السنوات القليلة الأخيرة.
هل يُفكر المبدع والقاص مصطفى يعلى في كتابة الرواية؟
لا. لم يكن أبدا من الوارد في ذهني أن أكتب الرواية. ربما هي مسألة مزاجية. فأنا أجد نفسي في كتابة القصة القصيرة منذ البدايات الأولى حتى الآن. وأستعيد من خلال قراءتها وكتابتها توازني النفسي. وإن كنت أعرف أن الكثيرين من الكتاب المغاربة والعرب، قد ركبوا موجة الرواية حين اعتلت قيمة تداولها في حقل الإبداع عالميا، فغادروا القصة القصيرة، ومنهم من زاوج بينها وبين كتابة الرواية في نفس الوقت. في رأيي أن القصة القصيرة نوع سردي قائم بذاته، مثلما هي الرواية والشعر والمسرح وما أشبه. وليست تمرينا لدخول عالم الرواية. إنه الإعلام والنقد القاصر ما روج لمثل هذا الفهم الخاطئ لدى الكثيرين.
ما جديدكم في الكتابة القصصية؟
لقد كتبت مؤخرا مجموعة من النصوص السردية القصيرة جدا، ونشرتها تباعا على صفحتي بالفيسبوك. فتركت صدى طيبا لدى أصدقاء الصفحة. كما كتبت حوالي أربع قصص قصيرة جديدة، إحداها موسومة (رجل ممصوص حتى العظم)، نشرت في مدونة الإعلامية النشيطة أسماء التمالح، بتاريخ 2 يوليو 2014، في حين نشرت أخرى بعنوان (رماد بطعم الحداد)، ضمن الأنطولوجيا الرقمية (أنطولوجيا القصة القصيرة بالمغرب: من جيل التأسيس إلى جيل الإنترنيت)، من إعداد وتقديم مدير مجلة اتحاد كتاب الإنترنيت المغاربية، الأديب المبدع عبده حقي. كما هناك مجموعة قصصية خامسة لي معدة للنشر.
برأيكم هل يمكن الحديث عن الأنواع الأدبية كأجناس مستقلة و خالصة؟ أم أنها تعرف تقاطعات تقودها نحو إلغاء التجنيس؟
لست أميل إلى القول بإلغاء التجنيس. فأجناس الأدب وأنواعه المختلفة، ضرورية لإقامة الحدود بين حقول الإبداع، بكل مكونات خطابها المخصوصة، من أجل الحفاظ على هوية كل جنس إبداعي وخصوصياته. وإن كنت لا أرى مانعا من انفتاح الجنس الواحد، على غيره من الأجناس، إن دعت الضرورة توظيف هذا المكون أو ذاك للإضاءة والتعميق والإغناء. ألا تستفيد القصة القصيرة مثلا من السناريو السينمائي والحوار الدرامي المسرحي والإيقاع الموسيقي والكولاج التشكيلي؟.
شنت بعض الجمعيات هجوما على اللغة العربية لتعويضها بالدارجة المغربية. هل اللغة العربية في خطر؟ وكيف يمكن تحصينها والدفاع عنها في مواجهة المغرضين؟
اللغة التي قاومت همجية الماغول ووحشية التتر وظلامية العثمانيين وعدوانية الغرب، أكثر من ألف عام وما زالت، أكيد أنها لغة أبدية. ولن يستطع أحد عظم شأنه أو ضؤل، أو جهة من الجهات الضالعة في الدس والجبروت، الإيقاع باللغة العربية ووضعها في دائرة الخطر. إن اعتقادي هذا، لا يدخل ضمن الظاهرة الصوتية، التي اشتهر بها العرب، خلال المائة سنة الماضية على وجه التخصيص. بل يستند إلى معطيات موضوعية مدعمة لها، من مثل:
أولا، إن هذه اللغة الجميلة، هي لغة وجدان، إضافة إلى كونها لغة فكر وعلم بامتياز. وإذا كان هناك من قصور، فهو مرتبط بأبنائها أساسا. إذ هي ليست معجما ونحوا وقواعد وجملا فقط، بل إنها قدرة تعبيرية منصهرة في الشخصية القومية فكرا وإحساسا وهوية.
ثانيا، هي لغة غنية بإمكاناتها الاشتقائية، بصورة نادرة بين لغات العالم، بحيث تستطيع استيعاب المصطلحات وهضم المفاهيم والقضايا المعرفية المستجدة. ويحضرني هنا رأي للشيخ نجيب الحداد في تسعينيات القرن التاسع عشر، يقول: إن اللغة العربية، تستطيع أن تجد عشر صيغ للفكرة الواحدة، حين لا تستطيع اللغات اللاتينية العثور سوى على صيغة واحد لها. فأي غنى وأي ثراء؟.
ثالثا، إن اللغة العربية شبيهة بالعنقاء، فكلما بدا أنها تعاني سكرات الاحتراق، انبعثت من رمادها أكثر انتعاشا وحياة. ولعل قصيدة (اللغة العربية) الناعية لحظها، للشاعر المعروف حافظ إبراهيم، ذات دلالة خاصة في هذا الصدد. فقد كانت اللغة العربية، قد بلغت مستوى من التدهور في السنوات الأخيرة من عهد الاستعمار العثماني الغاشم، لا يبشر بيقظة متوقعة لها، مثلما ندرك من مثل هذه الأبيات المتشائمة:
رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَني **عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي
وَلَدتُ وَلَمّا لَم أَجِد لِعَرائِسي ِ**رجالاً وَأَكفاءً وَأَدْتُ بَناتي
وَسِعْتُ كِتابَ اللَهِ لَفظا وَغايَةً **وَما ضِقْتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ **وَتَنسيقِ أَسْماءٍ لِمُختَرَعاتِ
لكن لاحظي معي الأستاذة الفاضلة سناء، كيف انبعثت هذه اللغة العريقة، واستماتت وتطورت، وكم تكيفت وتأقلمت واستوعبت، طيلة القرن العشرين. ولولا تهميشها إداريا، من قبل بعض أبنائها من المتواطئين ضدها في الدوائر الرسمية، ومحاربة اللغة الاستعمارية لها بكل السبل والإمكانيات، لكان لها ربما شأن آخر.
رابعا، إن أهم عامل للمحافظة على اللغة العربية وتقويتها، كونها لغة القرآن الكريم، التي استطاعت بجمالية إيقاعها وطاقتها البلاغية الهائلة وقدرتها التعبيرية الدقيقة إلخ… أن تكون وعاء مثاليا لتبليغ الآيات والمعجزات، والمحافظة على العبادات والتشريعات الإسلامية السمحة. فهي خالدة بخلود القرآن.
وبالمناسبة، ليس هناك من الأعلام والظواهر، من وما أفلت من نباح الكلاب الضالة. فالقافلة دائما تعرف الطريق إلى هدفها، رغم النباح وشهية الرياح المعاكسة.
بحكم تجربتكم الواسعة في مجال التعليم العالي، ما تقييمكم لواقع الجامعة المغربية؟
للأسف، وضع الجامعة المغربية، وخصوصا كليات الإنسانيات، يتردى يوما بعد يوم. والمفارقة أنني حين أقارن بين وضعها في السبعينيات والثمانينيات، ووضعها راهنا، أجد حالها كان أحسن، من حيث نظام التسيير ونوعية التأطير ونتائج التحصيل ووضوح آفاق المستقبل. أما الآن، فلا التسيير تسيير، ولا التأطير كفؤ وكاف، ولا العطاء منتج ونوعي، إلى جانب غموض مستقبل جامعتنا. إلا من رحم ربنا. فهناك استثناءات دائما. والمؤسف أيضا أن كل مشاريع الإصلاح الكثيرة المتوالية، المطبقة في السنوات القليلة الماضية، قد فشلت فشلا ذريعا، رغم الميزانيات الضخمة التي رصدت لها.
لقد راكمتم كما كبيرا من التجربة الفكرية والأدبية، يمكنكم من تأسيس رؤية عن الجامعة والتعليم العالي. ألا تحدثون قراءكم ومتابعيكم عن هذه الرؤية، لواقع البحث العلمي في الجامعة المغربية؟. هل هو بخير؟ وما هي الآليات التي ترونها مناسبة لدعمه وتطويره مستقبلا، وجعله مسايرا للشرط المجتمعي والثقافي و الفكري؟
لا، ليس البحث العلمي عندنا بخير، مع شديد الأسف. فلا يمكن أن يكون لدينا حوالي خمس عشرة جامعة أو أكثر، بينما لا تعكس فاعليتها منتوجا علميا لافتا بجدارته وثرائه وتعدده، وأبحاثا معمقة تضيف الجديد المبتكر في جميع التخصصات. فكيف نقبل أن يكون لدينا آلاف الأساتذة الباحثين، بينما إشعاع جامعتنا العلمي والثقافي باهت إلى أدنى مستوى؟. وطبعا، لا عبرة هنا بالاجتهادات الفردية الخاصة، لدى بعض الأساتذة الباحثين الأصلاء، فالقلة لا يقاس عليها كما هو متفق عليه. وللتأكد من المستوى العلمي المتردي لجامعاتنا، تذكري اللوائح السنوية العالمية، الخاصة بترتيب الجامعات، من حيث درجة البحث ونوعية الإنجاز، وسترين ألاّ وجود لأي من جامعاتنا فيها، فهي خارج الترتيب باستمرار.
وفي نظري، إن أي إصلاح من شأنه أن يطور الجامعة إلى ما هو أحسن، لا بد وأن ينطلق من القاعدة. أي من الأستاذ والشعبة والمسالك، مرورا بالمختبرات ومركز الدكتوراه ومجلس الكلية، وانتهاء بمجلس الجامعة، قبل أن ينتقل إلى الوزارة المعنية، فإلى اللجنة الوطنية للإصلاح. وليس العكس، كما كان يحدث دوما، إذ تدلّى الإصلاحات جاهزة من فوق، بإشراف من لا علاقة لهم بالممارسة التربوية داخل الجامعة، ويجهلون واقعها تماما، فتهدر الميزانيات المخصصة لذلك دون جدوى تذكر. بل إن بعض ما سمي إصلاحا مؤخرا، قد تسبب في ارتباك الجامعة على كل المستويات، وفي مقدمتها مردودية التكوين.
ولدعم البحث العلمي وتشجيعه، حتى يؤدي مهمته على صورة مرضية، أرى وجوب توفير الظروف الموالية:
ـ العمل على طبع ونشر الرسائل الجامعية الممتازة، النائمة في أرشيفات مختلف الكليات، منذ سنوات.
ـ تقديم المساعدات لمستحقيها من الباحثين الجادين، وتوفير البنية التحية الحقيقية اللازمة، من أجل إنجاز مشاريعهم البحثية، والاستفادة منها.
ـ الإكثار من إتاحة الفرص، لتبادل زيارات الباحثين مع زملائهم من الجامعات الأجنبية المتقدمة في البحث الجامعي علما وإنسانيا، وذلك من أجل استيعاب الخبرات، والاستفادة المعرفية.
ـ مطلوب من بعض الشركات الكبرى بالمدن الصناعية، أن تقيم المختبرات العلمية ضمن فضاءاتها، وفق ما عند غيرنا في البلاد المتقدمة.
ـ ضرورة توفير المكتبات العامرة، المستجيبة بمرجعياتها لكل التخصصات والمستويات، داخل جميع الكليات. فلا مكان أبدا للبحث العلمي في غياب مكتبة غنية بالمصادر والمراجع.
ـ إعطاء الأهمية القصوى لحصيلة البحث العلمي، في ملفات ترقية الأساتذة داخل اللجن العلمية.
ـ لا بأس من تنظيم دورات إعادة التكوين للأطر الجامعية، بين الحين والآخر، من أجل التطوير والمتابعة والتجديد.
ـ تشجيع الطلبة اللامعين في البحث العلمي، بكل الإمكانيات، استثمارا للعنصر البشري المستقبلي.
ـ بدهي أن الأنشطة العلمية والثقافية الموازية، من مجلة دورية علمية رصينة، ومؤتمرات وندوات وموائد مستديرة، كلها جميعا وغيرها تلعب دورا مهما في تبادل المعرفة والرأي، وامتداد إشعاع الجامعة.
وطبعا، إن كل هذا لا يتوفر بصورة إيجابية مثالية، إلا إذا توفرت الإرادات الحسنة، وكذا الإحساس بالمسؤولية المصيرية.
مؤخرا وخلال حفل تأبين الراحل الدكتور عبد الرحيم مؤذن، كتبتم كلمة مؤثرة لها أكثر من معنى، هل من رسالة يمكن تمريرها إلى المؤسسات الثقافية في المغرب؟
الله يرحم د. عبد الرحيم مؤذن. من المؤسف أن المؤسسات الثقافية في المغرب، لا تلعب دورها المطلوب كما يجب. فهي انعكاس كاريكاتوري للعقلية العشائرية السائدة في مختلف القطاعات الأخرى سياسية واقتصادية واجتماعية. والمسؤولون عليها والمسيرون لدواليبها، غالبا ما تكون الثقافة هي آخر همهم. لهذا فوجودها وعدمه سيان. انظري إلى ما حل بدعم الكتاب والمجلة بالنسبة لوزارة الثقافة مثلا، خلال تحمل عدد من الوزراء المتأخرين لمسؤوليتها، وستتأكدين من طبيعة مستوى التعامل مع الثقافة في البلد. إن الجمعيات الثقافية في المدن المهمشة، لأكثر فاعلية منها، في تنشيط الفعل الثقافي بالمغرب، كما هو ملحوظ. لهذا لا مصداقية لمواسم ومهرجانات ومنتوج تلك المؤسسات، الموصوفة ظلما بكونها ثقافية. إلا في إطار جد نسبي، رغم إمكاناتها المعتبرة.
وبمناسبة وفاة الراحل عبد الرحيم مؤذن، ينبغي التذكير بضرورة العناية المادية والصحية والاعتبارية بالأدباء والمثقفين، بوصفهم ثروة حضارية وطنيا وعربيا وإنسانيا. دون إدخال حس الربح والخسارة، على شاكلة تفكير التجار الجشعين. خصوصا وأنهم لا يكلفون الدولة في تكوين شخصيتهم الأدبية والفكرية، أي تكلفة مادية تذكر، رغم أنها لطالما جنت على ظهورهم كثيرا من الربح المعنوي والسياسي والمادي.
الوضعية المقلقة للقراءة والكتاب في المغرب، هل من سبيل لتجاوزها؟
أنا أنتمي إلى جيل، تربى وتثقف على قراءة الكتاب. وحتى وأنا أستعمل الحاسوب والإنترنيت، وأستفيد ثقافيا وفنيا من إمكاناتهما الهائلة، إلا أنني لا يمكن أن أستوعب مقروءاتي، إلا إذا كان بين يدي الكتاب أو المجلة، وبين أصابعي قلم الرصاص، أسطر به على الفكرة البارزة وألخصها وقد أعلق عليها. لهذا فبالنسبة إلى جيلي الأمر محسوم من الأساس. المشكل هو مشكل جيل الشباب، الذي فتنته التكنولوجيا الجديدة على مستوى المعلوميات والفضائيات والهواتف الذكية، فتلهى بها عن القراءة والمتابعة الورقية. وفي اعتقادي، أن الأداتين معا تكوّنان مصدرين جذريين للاستفادة والاستمتاع أدبيا وفكريا. لذا وجب الجمع بينهما.
وأعتقد أن البيت والمدرسة، هما أول فضاء يمثل فرصة بث حب الكتاب والقراءة المدمنة، في نفس الأطفال والمراهقين والشباب والكبار. فلا يعقل أن يخلو البيت من مكتبة صغيرة على الأقل، وهل من سبيل لإعادة فكرة مكتبة القسم الناجعة؟، وتشجيع التلاميذ على ارتياد مكتبة المؤسسة التعليمية، ومكتبات المدينة إن وجدت.
على أنه من الواجب الحضاري، إلى جانب واجب تشجيع القراءة، أن تتابع الإصدارات بحفلات التوقيع، والكتابة عنها، وتوزيعها بشكل يمكّن من وصولها بسهولة إلى يد القارئ، وإقامة مهرجانات القراءة للجميع، وتسيير قوافل المكتبات المتنقلة نحو كل الأنحاء، وتنظيم المسابقات وجوائز الكتاب بصورة موضوعية، ودعم الكتاب والمجلة ماديا بصورة جدية ومدروسة، من طرف المؤسسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية. هذا إذا كانت هناك فعلا رغبة وإرادة جادتين وصادقتين في تشجيع القراءة.