” هل أنتم مستعدون للرحيل؟ جاهزون؟ حقائبكم جاهزة ؟” بهذه الجمل الاستفهامية افتتحت صباحي اليوم الجمعة وأنا أشغل هاتفي الصغير المبرمج سابقا وبشكل عشوائي على محطة إذاعية خاصة، كان هذا صوت مذيع يوجه هذه الأسئلة لعموم المستمعين ويتلقى اتصالات هاتفية تجيب عنها.
يا له من موضوع !! ويا لهول القادم علما أن المسافة تقترب يوما عن يوم !! سألت نفسي: مستعدة يا أسماء؟ جاءني الجواب في حماس: مستعدة . جاهزة يا أسماء ؟ الجواب حماسي مرة أخرى : جاهزة. حقيبنك ” الشنطة” جاهزة؟ الجواب : نعم جاهزة.
اختلط جوابي الأخير بمسحة من الحزن وسالت دموعي، تخيلت أمامي حقيبة أعمالي وموازاة معها لقاء رب عظيم، إنه الله وحده لا شريك له وليس أي أحد، هو الأحد الصمد يعلم ما في حقيبتي ولا أعلم هل ستؤهلني لدخول الجنة أم فيها ما يغضبه سبحانه لا قدر الله، خوف رهيب يتسلل إلى أعماقي، ها هي ذي الحقيبة وفيها ما تيسر من عمل صالح مفرح، لكن ماذا عن السيئات؟ حتما لدي فيها نصيب فلست سوى إنسانة والإنسان عموما غير معصوم من الخطأ، الملائكة وحدهم المفطورون على الصلاح الأبدي.
تحررت من قيود نفسي وعدت أنصت للمذياع وأركز فيما يبوح به المتصلون بالبرنامج، كان جواب أحدهم مثلي أنه مستعد وجاهز والحقيبة جاهزة، سأله المذيع: ما الذي يجعلك واثقا من نفسك بهذا الشكل ومتحمسا؟ أجاب المتصل: أنا لا أنام إلا وقد سددت كل ديوني، ليس لأحد دين علي، أنام مرتاح البال والضمير، قاطعه المذيع: وهل يتوقف الأمر عند تسديد الديون فحسب، أليس الموضوع أعمق وأكبر مما نتصور جميعا؟
تلعثم المتصل وهو يحاول الرد على المذيع فإذا بالأخير يرأف بحاله ويسأله من جديد: هل تعلم ما يوجد ب” الشنطة ” عندك ( يقصد حقيبة أعماله الدنيوية) ؟ أجاب الرجل بصوت شجي: لا .
المذيع : إذن كيف تقول أنك مستعد وجاهز ؟
المتصل: أنا أحاول وأجتهد في أن يرضى الله عني، وما في الحقيبة هو أعلم به، حقا لا يدري المرء أين تأخذه الحقيبة التي يحمل وإلى أي اتجاه، لكن ربنا كريم ورحمان رحيم.
ربنا كريم ورحمان رحيم .. كم تبعث هذه الصفات الإلهية على الارتياح والاطمئنان لوجود العبد بين يدي الله تعالى، لعلها الباعث الحقيقي على حماسنا وتأهبنا للقاء الله عز وجل، لعلها أسماء من أسماء الله الحسنى التي تقف وراء ادعائنا الاستعداد والجاهزية للرحيل إلى العالم الآخر ونحن في داخلنا نرتجف ارتجافا من هذا الرحيل لغموض المآل والجهل بعوالمه وما تفضي إليه.
صحيح أننا نعمل ونسعى في أن يكون الرب راضيا عنا ونحن نتقرب إليه بمختلف الطاعات، غير أننا كثيرا ما نقصر، وكثيرا ما نذنب، وكثيرا ما نعصي أوامره سبحانه وتعالى، نستغفره ونطلب عفوه نعم، إلا أننا نظل غير متيقنين بأنه جل وعلا قد سامحنا وهنا مربط الفرس، وإليه يرجع أصل تخوفنا وقلقنا وفزعنا ورهبتنا من أن نلقى الله تعالى وهو غضبان لا قدر الله.
إن أكثر ما يدفع الناس للاقرار بعدم استعدادهم للرحيل هو الهلع من المجهول المرتقب، لكن إلى متى سظل هؤلاء على هذا الحال خائفين نرتعدون والرحيل أمر لا مفر منه ولقاء الله واجب ليس منه هروب مهما حاولوا غض الطرف عنه وتجاهله؟
بعد كل ما قيل يا أصدقائي، هل أنتم مستعدون للرحيل ، جاهزون، وحقائبكم جاهزة ؟
ربما نادرا ما تفتح مثل هذه المواضيع للنقاش لنفور الناس منها، لكنها تبقى الحقيقة المؤكدة التي تستوجب الوقوف عندها بين الفينة والأخرى تذكيرا للنفس التي انجذبت إلى ملذات الحياة وانشغلت بمظاهرها الخادعة حتى نسيت ذكر الله وفجعت حين قضى الله أمرا وهي في غفلة من أمرها.
قال الله تعالى : ” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” . سورة القصص / آية : 77.